أزمة برتقال وصخب غاز ونفط

6
أزمة برتقال وصخب غاز ونفط
أزمة برتقال وصخب غاز ونفط

صابر بليدي

أفريقيا برس – الجزائر. لا يزال الاهتمام في الجزائر بتداعيات التغيرات المناخية محصورا في فعاليات محدودة لا تعكس حجم الأضرار التي باتت تلحق بالنشاط الزراعي والمعيشي بشكل عام، مقابل الاحتفاء الرسمي والشعبي بالعائدات التي حققتها الخزينة العمومية من ارتفاع أسعار الطاقة، وإعداد الحكومة لبرنامج سنوي ضخم يناهز 100 مليار دولار هو الأول من نوعه في تاريخ البلاد.

ويبدو أن الاستشراف في الدوائر المختصة لا يزال بعيدا عن التحديات الحقيقية التي تواجهها البلاد، وأولها التغيرات المناخية التي بدأت تأثيراتها تلحق المحاصيل الزراعية والمخزون المائي، وإلا ما معنى تركّز الاهتمام مجددا على الطفرة في مجال الطاقة، في حين تجثم الأخطار تدريجيا على مستقبل غذاء وماء الأجيال أمام أعين الجميع.

ولعل الأجراس التي دقها مزارعون وناشطون في القطاع حول تضرر محاصيل موسمية من التغيرات المناخية التي تعرفها البلاد في الآونة الأخيرة، هي إنذار لا بد أن يلقى الآذان الصاغية أو أن الحمضيات والعسل التي تم جنيها هذا الموسم لن تكون في السنوات القادمة، وإذا كان البعض يراهن على عائدات النفط والغاز، فإن الخطر يهدد غذاء الجزائريين.

ورفع المزارعون في سهل متّيجة بوسط البلاد شكاويهم إلى السلطات المختصة حول تضرر محاصيل البرتقال والليمون واليوسفي من التغيرات المناخية المستجدة، وقبلهم كان مزارعو محافظة سوق أهراس بأقصى شرق البلاد قد ندبوا حظهم بسبب خسائر في جني العسل نتيجة الظروف المذكورة.

تغير كبير في تقاليد الطقس المتوسطي، حرارة غير معهودة على مدار الأعوام الأخيرة، وبوادر جفاف عام وتراجع ملحوظ في الموارد المائية، كلها معطيات كافية لأن تتحرك الحكومة لوضع حلول استباقية قبل أن يشهد الوضع مزيدا من التعقيد بدل الاكتفاء بفرحة عائدات الطاقة.

وكان جديرا بالجزائر الحاضرة بقوة في المؤسسات الإقليمية والدولية للنفط والغاز، أن تحرك آلياتها الدبلوماسية في المؤسسات والمنظمات المهتمة بالتغيرات المناخية التي تلحق بالغلاف الجوي وكوكب الأرض، وتكوين جبهة تضم المتضررين من الظاهرة للسيطرة على بؤر التلويث ومكافحتها والحصول على التعويضات اللازمة ومواجهة الأخطار الجاثمة، ولعل التقرير الأممي الذي حذر من مستقبل قاتم ينتظر المنطقة هو أكبر حجة يمكن أن تحرض الحكومات المعنية على سرعة التحرك لتلافي الكارثة.

ومنذ ثمانينات القرن الماضي وخطاب السلطات المتعاقبة يتحدث عن التحرر من التبعية النفطية وإيجاد بدائل اقتصادية لريع الطاقة، إلا أنه بعد مرور أربعة عقود لا تزال البلاد في نفس المربع وتردد نفس الخطاب، ولم يحظ القطاع الأول الكفيل بضمان الأمن الغذائي بالاهتمام والتخطيط والتنمية، فتضطر من حين إلى آخر لاستيراد البطاطا والتفاح، أما القمح والحليب فحدّث ولا حرج.

ومؤخرا استشاط جزائريون غضبا من دعاية “ذباب” الحكومة لمشروع استثماري قطري لتربية الأبقار وإنتاج الحليب في الجزائر، ليس لأي سبب، إلا لأن المشروع إذا تم هو “فضيحة” مبطنة للجزائر البلد القارة ذات الفصول المناخية الأربعة وأكثر من 40 مليون نسمة، والبلد الذي كان قبل ستينات القرن الماضي بمثابة سلة غذاء فرنسا وأوروبا بشكل عام، وطرح هؤلاء سؤالا: كيف لقطر التي تساوي جغرافيتها الصحراوية محافظة من محافظات الجزائر الـ58 أن تستثمر في القطاع الزراعي بالجزائر لولا وجود خلل كبير في نظام التسيير وإدارة الشأن العام؟

لقد حققت المبادرات الفردية بالجزائر نتائج باهرة في المجال الزراعي، فتحولت صحراء بسكرة ووادي سوف والبيّض.. وغيرها إلى نماذج يحتذى بها في الاستثمار الزراعي، لكن المرافقة الحكومية تبقى دون مستوى التحديات والطموحات، ما دام التخطيط والأولوية الإستراتيجية غائبين، وإلا لشهدت البلاد طفرة في الصناعات الغذائية والتحويلية بالموازاة مع نمو النشاط الزراعي بدل رمي وإتلاف المحاصيل في بعض الأحيان بسبب فائض الإنتاج، والافتقاد إلى المصانع المختصة ومراكز التخزين.

اختلال الموازين وسوء الإدارة والتخطيط ليسا وليدي اليوم في الجزائر، بل يعودان إلى حقب ارتكبت فيها مخالفات بيئية واقتصادية هي بمثابة جرائم، فقد مسحت وتآكلت تدريجيا سهول شمال البلاد الخصبة أمام أعين المؤسسات الرسمية بسبب تمدد العمران العشوائي وغزو غابات الإسمنت. ولعل الجزائريين يتذكرون قرار رئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى بتحويل الأراضي الزراعية غير المنتجة إلى مشاريع عقارية، وبدل أن توفر حكومته المياه وأدوات الري للمزارعين أو تحويلها إلى نشاط زراعي لا يستهلك المياه، صنفتها في خانة الأراضي “غير الصالحة للزراعة”.

والآن تزحف التغيرات البيئية والمناخية على البلاد لتلقي بالمزيد من العبء على القطاع الزراعي المهمش، وسط غفلة وتجاهل رسميين بسبب طفرة النفط والغاز، ملقية بالجزائريين في خضم مخاوف من أن تتحول ألوان تمور “دقلة نور”، وبرتقال متيجة، وعسل الهضاب، وزيتون القبائل إلى مجرد ذكريات من الماضي، وهذه كلها مخاطر حقيقية، فإنتاج منطقة البليدة من الحمضيات فقط تراجع إلى النصف من أكثر من أربعة ملايين إلى مليوني قنطار خلال هذا الموسم.

عوامل بشرية ومناخية تحالفت كلها على سلة غذاء المتوسط، والحكومة مدعوة إلى التوقف بجد أمام هذا الوضع، لأن الوضع برمته في منعطف حاسم، فإما أن تجد ما يحضر البديل ويواجه التغيرات، وإلا فإن الجزائر مهددة بفقدان منتوجاتها وثرواتها الزراعية تدريجيا.

ولا يكفي الاحتفاء بتظاهرات ومعارض بدائية للتمور والحمضيات والزيتون والبطاطا والعسل لتأدية مشاهد هي من المونولوغ وخداع النفس في أحسن الأحوال، وأما في أسوئها فتتم بعيدا عن علم وعيون الجمهور. لا جدوى من هذه الفعاليات إن لم يتحدد غرضها ليشمل أكبر عدد من الفاعلين ومن الجمهور. لا بد من البحث والنقاش حول المشاكل وآليات التطوير والتسويق والترويج ومن ثم اقتراح الحلول والعمل على تطبيقها، فمن غير المعقول حرمان العالم من تذوق تمر وعسل وبرتقال وزيتون الجزائر.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here