أول نوفمبر.. من ثورة التحرير إلى ثورة التجديد

70
أول نوفمبر.. من ثورة التحرير إلى ثورة التجديد
أول نوفمبر.. من ثورة التحرير إلى ثورة التجديد

افريقيا برسالجزائر. التاريخ يعيد نفسه، مقولة تبدو خيالية لدى البعض، ولكنها كثيرا ما تتحقق وبشكل يكاد يكون صورة طبق الأصل.وهذا الفاتح من نوفمبر 2020 كرّر نفسه ولو بمحتواه وجوهره، وحافظ على نفس لأطراف التي كانت بطلة مشهد، هز العالم ذات الفاتح من نوفمبر 1954 وقد يهزه أيضا في هذا الفاتح من نوفمبر 2020.

أكيد أن الأسماء الصانعة للحدث الأول الجزائرية، من رمضان بن عبد المالك ورابح بيطاط والعربي بن مهيدي وغيرهم تغيرت، ولكن البصمة الجزائرية واحدة في الفترتين، وأكيد أن الأسماء الصانعة للحدث الأول الفرنسية، من رينيه كوتي وشارل ديغول وغيرهما أيضا تغيرت، لكن البصمة الفرنسية واحدة في الحدثين. وإذا كانت الثورة الأولى قد زلزلت فرنسا منذ ست وستين سنة، فإن الثورة التجديدية الثانية ستزلزل من مازالوا يحلمون بفرنسا أو على الأقل التبعية العمياء لها.

ولأن التاريخ لا يحلوا له سوى أن يعيد نفسه، بأبهى حلة، فإن الحملة الشعواء التي تقودها فرنسا على الإسلام في الفترة الأخيرة، مُشترك فيها رئيس الدولة وبعض من وزرائه والكثير من الأحزاب والجمعيات والإعلاميين وأطياف من الشعب الفرنسي، ستواجه بإعلاء صوت الحق من أعظم مسجد بُني في العصر الحديث على وجه الأرض، وستكون صيحته من المحمدية المنطقة التي اختارت اسم محمد ردا على الفرنسيين قديما، وبنت أكبر جامع على الأرض حديثا، ردا على الذين حاولوا على مدار قرن وثلث قرن أن يُنصّروا الجزائريين وأكثر من ذلك أن يغرقوهم في عالم الشعوذة والطرقية التي كادت أن تجر البلاد إلى دمار العقول، لولا ثورات الفكر الراقية التي قادها رجالات الجزائر بقيادة الشيخ ابن باديس وانتهاء بثورات التحرير الراقية التي تجسدت في بيان أول نوفمبر الذي يعتبر مرجعا أبديا للجزائريين.

لا يمكن لأي أمة أن تحلم بمثل هذه الظروف،وبمثل هذه الجغرافية والتاريخ، يتوجه أفرادها إلى صناديق الاقتراع بأجمل الذكريات وبأروع التحديات وهم مقتنعون، بأن صبر الأجيال السابقة الذي تحقق بعد سنوات من الكفاح، قادر على أن يتحقق بأقل التضحيات وفي أقصر الأوقات، مادامت كل سبل بلوغ الأهداف حاضرة.

إذا استثنينا دستور الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي منحه الشعب رفقة الميثاق الوطني في زمن الأحادية والرأي الواحد أكثر من 99 بالمئة من الموافقة، فإن كل المحاولات السابقة لتعديل الدستور كانت بأهداف لا تضع الشعب ولا حتى الأمة نصب أعينها إلى أن بلغنا درجة مؤلمة من البؤس، فعُدّل الدستور أمام أنظار أربعين مليون جزائري من أجل أن يخلد رئيس واحد على مقعد المرادية ليُسيّروا أموال البلاد وخيراتها باسمه، بطريقة لم تختلف أبدا عما كانت تقوم به فرنسا الاستعمارية التي استباحت الأرض والعرض، وأقنعت نفسها بأنها ملكها. وكما كانت ثورة الجزائر ذات خريف قد أينعت الاستقلال صيفا، جاءت ثورة حراك ذات ربيع وأينعت خريفا، دستورا جديدا من أجل استقلال آخر من عقود الفساد.

لكل أمة مرجعا تعود إليه كلما أنهكها السير أو حادوا بها عن الصواب، ولا تجد الجزائر ما يوحّدها غير نوفمبر الذي جمع أبناء الأوراس وجرجرة والحضنة وميزاب والباهية والصخر العتيق وأبناء القصبة والزيانيين والتوارق والنايليين، ولن تجد مثل الإسلام الذي أعزها عندما أرادت مختلف الحملات أن تذلها، لأجل ذلك يعود الجزائريون في أول نوفمبر 2020 إلى مرجعيتهم النوفمبرية ليخطوا أحلى الصفحات، ويعودون إلى الإسلام بجامع سيؤكد وحدتهم وهو الذي صاح منذ أربعة عشرة قرنا: إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، وإنما المؤمنون إخوة، وفي كل الحالات ستعود الذئاب المتربصة إلى جحورها كما عادت في الخامس من جويلية 1962.

كل الانتقادات التي طالت اختيار الفاتح من نوفمبر موعدا للاستفتاء على الدستور، أو التي راحت تعزف تغريدة التبذير والإسراف ورمي المال في بناء جامع الجزائر العاصمة بدت مجرد فقاعات تناثرت في الهواء، حتى وإن كان بعضها قد نفخ ريحه من الخارج، فمن غير المعقول أن يكون لأمة تاريخا مجيدا، وتختار أياما أخرى، ومن غير المعقول أن يمن الله على بلد بثروة مالية ولا يشكره ببناء جامع يُحمد فيه.

فقد اختار لسابقون أياما ديسمبرية ومارسية للاستفتاء على الباطل، ولا أحد انتقد ولا نقول خالف الرأي، وبُذرت الأموال في سنة الثقافة الجزائرية في فرنسا وفي مهرجانات واستيراد المشروبات الكحولية وبناء العمارات المغشوشة ولا أحد انتقد ولا نقول فضح الفاعلين.

كل من يزور قسنطينة في عهد الاستقلال لا بّد وأن يتوجه إلى جامع الأمير عبد القادر الذي يسرّ الناظرين والقلوب، وكل من سيزور الجزائر العاصمة سيزور مسجدها الأعظم الذي سيكون فخر الجزائر وجامع لأهله.

من حق الجزائريين بعد سنوات الفساد أن يحلموا بالحق يمشي بينهم ويمنحهم الطمأنينة التي غيّبها الاستعمار لعقود وغيبها الإرهابيون والفاسدون بعد أن ورثوا عنه البطش والزور، ومن حقهم أن ينتظروا شمسا غابت مباشرة، بعد أن بزغت في شهر جويلية من سنة 1962، فقد كان حراكهم حلما جميلا رسم صورة الجزائر الجميلة التي قدمت على مدار أسابيع نموذج راقي للثورات الشعبية على الباطل، كيف تكون وكيف يمكنها أن تردّ الذئاب إلى جحورها، ومن دون سفك قطرة دم، أو قذف حجرة واحدة،فتسقط كل التماثيل ثم تجر جميعا إلى الحساب الدنيوي فيجد الذي استكثر على الفقراء علبة ياؤورت أو الذي دعاهم لأن يرقصوا على نخب البترول، أو الذي كان يُنكت في زمن الدموع، أو الذي كان يظن بأن آبار النفط ورثها عن جده، أنفسهم في السجون، يتابعون اعتزاز الجزائريين بأنفسهم وعودتهم بعد 66 سنة من الثورة إلى… الثورة.
ب.ع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here