أفريقيا برس – الجزائر. تزامنت زيارة الرئيس عبد المجيد تبون الى سلوفينيا، مع غياب الجزائر المثير عن احتفالات النصر الروسي التي حضرها خصومها في المنطقة كالجنرال الليبي خليفة حفتر، وقائد السلطة العسكرية في بوركينا فاسو، وسواء كان الأمر محض صدفة أو خاضع للبرمجة، الا أن اتفاق الغاز المبرم بين البلدين، يترجم رغبة الجزائر في التمدد الطاقي في عمق أوروبا وربما الوصول الى تخوم روسيا، وهو ما يوحي الى أن المجال الحصري الذي كان بحوزة الروس قبل الحرب الأكرانية، بات محل منافسة جزائرية مفاجئة، مما يفضي الى لعبة جيوسياسية بين موسكو التي قلبت الموازين في منطقة الساحل، وبين الجزائر التي تتمدد شمالا لرسم محور طاقي صلب مع أوروبا.
أبرمت شركتي سوناطراك الجزائرية وجيوبلين السلوفينية، اتفاقا تموين للعامين القادمين يقدر بمليار متر مكعب، انطلاقا من الخط الرابط بين الجزائر وإيطاليا، وذلك بالموازاة مع كشف الرئيسة ناتاشا بيرك موزار، عن تموين الجزائر لبلادها بـ 50 بالمائة من احتياجاتها، في حين عبر الرئيس الجزائري عن استعداد بلاده لتوفير أي كمية تطلبها سلوفينيا من الغاز، وأن موثوقيتها تشجع الشريك الجديد على الاطمئنان عن طلباته الطاقية، لأن عقود الغاز لا يمكن أن تخضع أو تتأثر بالمسائل العارضة.
ورغم أن سلوفينيا لا تشكل مستهلكا كبيرا للطاقة، قياسا بمساحتها الجغرافية (20 ألف كلم مربع)، وكثافتها السكانية (مليوني نسمة)، الا أن انفتاحها على المورد الجزائري، سيجعل منها زبونا جديدا ينضاف الى زبائن آخرين في أوروبا، على غرار إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا، ولا يستبعد وصوله الى المجر، الأمر الذي يجعل الغاز الجزائري يتدفق في تخوم روسيا، التي ظلت الى غاية اندلاع الحرب الأوكرانية، تعتبر المنطقة مجالا حيويا وموطئ نفوذ طاقي.
زيارة أولى من نوعها لرئيس جزائري الى المنطقة
ويرى المحلل السياسي ستوان جلول، في تصريح لـ “أفريقيا برس”، بأن “زيارة الدولة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى سلوفينيا، تبدأ أهميتها في أنها الأولى من نوعها لرئيس دولة جزائري إلى دولة في أوروبا الشرقية منذ سقوط جدار برلين، وهي ترمي إلى تعزيز العلاقات الثنائية بين الجزائر وسلوفينيا من خلال ترقية التعاون في مختلف المجالات، ففي الشأن الديبلوماسي ترمي إلى تعميق العلاقات الودية بين البلدين، اللذين يتقاسمان مواقف مشتركة كأعضاء غير دائمين في مجلس الأمن الدولي.
وأضاف: “الزيارة التي بحثت مختلف الملفات الثنائية وذات الاهتمام المشترك، خاصة الوضع في فلسطين وفي الصحراء الغربية، توجت باتفاقيات أبرمها مسؤولون كبار ورجال أعمال من أجل تطوير الاستثمارات والتبادل التجاري، وشملت قطاعات استراتجية كالطاقة والطاقات المتجددة والعلوم والتكنولوجيات الحديثة والفضاء والمياه والتكوين.. وغيرها، الأمر الذي سيقفز حتما بمستوى التبادل الثنائي الذي لم يتعد سقف الـ 100 مليون دولار خلال السنوات الأخيرة، الى مستويات أكبر في المدى القريب والمتوسط”.
وشكلت الحرب الأوكرانية مطلع العام 2022، تحولا لافتا في خلط الأوراق الجيوسياسية، فموسكو التي كانت تعتقد أن غزو كييف لا يكلفها الا ضربة استباقية وبعض أيام لاخضاع أوكرانيا، سقطت في مستنقع معقد، كلفها تحالفا غربيا ضدها وحزمة من العقوبات، أبرزها حظر استيراد الطاقة، الأمر الذي رفع مؤشرات مصادر أخرى للطاقة في السوق العالمية، ومنها الجزائر، التي تحولت الى قبلة لكبار مسؤولي القطاع الطاقي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، من أجل اقناعها بضرورة ضمان تموين أوروبا بحاجياتها الغازية.
ورغم أزمة أنبوب الغاز المغاربي، الذي يصل بين الجزائر واسبانيا مرورا بالمغرب، بعدما قررت وقف التموين بواسطته منذ العام 2021، بسبب الخلافات السياسية بين البلدين والقطيعة القائمة بينهما، إلا أنها وفرت الطلبات المتصاعدة في تلك الفترة، وراهنت على رفع انتاجها الى سقف 100 مليار متر مكعب.
عقد جديد في لائحة زبائن الغاز الجزائري
لكن العلاقات التاريخية التي تربطها شكلت حاجزا وشكوكا لدى الزبائن الغربيين، من إمكانية انحيازها لروسيا والتحفظ على تلبية الطلبات المذكورة، غير أن ذلك لم يصمد أمام حاجتها الملحة لتوفير مصادر مالية إضافية لضخها في اقتصادها المتعثر واستثماراتها المعطلة خلال السنوات الأخيرة بسبب عدم الاستقرار السياسي بداية من العام 2019.
ورفضت الديبلوماسية الجزائرية، الإقرار بأن يكون توسيع ورفع معاملاتها الطاقية مع دول أوروبا، بديلا للغاز الروسي أو منافسا له في المنطقة، تفاديا لانزعاج الشريك التقليدي، لكن موسكو التي تظاهرت بعدم الامتعاض من الخطوة والتحجج بالمصالح الاقتصادية المشروعة للجزائر، بحسب تصريح السفير الروسي السابق فاليران شوفاييف، يبدو أنها كتمت غضبا كبيرا، وتقوم بتصفية حساب صامتة مع الجزائر، بداية من خذلانها في ملف الانضمام الى مجموعة “بريكس” العام 2023، ثم التغلغل في مجالها الحيوي التقليدي بمنطقة الساحل الافريقي، وارسائها لتحولات جيوسياسية في المنطقة تهدد مصالح الجزائر.
وفي انتظار مخرجات تسوية الأزمة الروسية- الأوكرانية، التي يشرف عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ توليه قيادة البيت الأبيض الأمريكي، فان الجزائر تسرّع خطاها لابرام المزيد من عقود التموين لدول الاتحاد الأوروبي، لاسيما غرب ووسط وحتى شرق القارة، وهو ما يعيق عودة روسيا الى الأسواق المذكورة، رغم فارق الإمكانيات والكميات، لتكون بذلك رسالة ناعمة للشريك التاريخي الروسي، في اطار لعبة جيوسياسية مفادها الرد على الدور الروسي في منطقة الساحل، الذي بات مصدر تهديد حقيقي للمصالح التقليدية للجزائر في المنطقة.
ويرى متابعون لشؤون الخرائط الجيوسياسية، بأن العلاقات الثنائية المتسارعة بين الجزائر وسلوفينيا، تنطوي على نوايا استراتجية لقادة البلدين، فالى جانب أنها عضو في الاتحاد الأوروبي، فهي منفذ ملائم للتغلغل في العمق الأوروبي نحو الوسط والشرق، وتشكل نموذجا يمكن الاستفادة من تجاربه، في تحقيق وثبة اقتصادية ومالية لافتة، فرغم محدودية مساحتها وكثافتها السكانية، الا أن مدخولها يفوق حاجز الـ 120 مليار دولار، أما سلوفينيا الواقعة في خط تماس قريب من روسيا، تريد تحقيق انفتاح لنفسها خارج الاتحاد الأوروبي، والاستفادة من الفرص المتاحة في أفريقيا، مثلها مثل دول غرب القارة.
غياب مثير للجزائر عن احتفالات النصر الروسي
وصرح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في ندوة صحفية بمعية الرئيسة السلوفينية ناتاشا بيرك موزار، بأن “المشاورات الثنائية أكدت وجود توافق تام بين الجزائر وسلوفينيا في كافة الملفات، وأن الجزائر بلد موثوق ومستعد لتلبية طلبات سلوفينيا فيما يخص الغاز، ولا يمكن لبلادنا أن تتأثر بأي تغييرات في المستقبل”.
وأضاف: “تبادلنا الآراء مع رئيسة جمهورية سلوفينيا وهناك اتفاق تام فيما يخص ملفات الهجرة غير الشرعية والذكاء الاصطناعي والفضاء والمياه والبيئة، وأن المجال مفتوح من أجل علاقات قوية ونموذجية بين الجزائر وسلوفينيا، التي تملك قدرات يمكن لشبابنا الاستفادة منها”.
وتابع: “ننوه بالمواقف الشجاعة والنزيهة لجمهورية سلوفينيا تجاه القضية الفلسطينية وهي أول دولة أوروبية تعترف بدولة فلسطين وهو شرف كبير ونتمنى أن تكون قدوة لباقي الدول، كما ننوه بمواقف سلوفينيا تجاه قضية الصحراء الغربية من أجل إيجاد حل يرضي الطرفين تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة ويقر بحق تقرير مصير شعب الصحراء الغربية عن طريق تنظيم استفتاء تقرير المصير”.
وأكد المحلل السياسي ستوان جلول، في تصريحه لـ “أفريقيا برس”، بأن “رسائل تبون كانت واضحة للأطراف التي دخلت في مناكفات مع بلاده خلال السنوات الأخيرة، ولا تتورع في تهديد أدوراها ومصالحها، بالترويج لمزاعم خاطئة عبر حملات مضللة، بغية ثنيها عن مواقفها الثابتة”.
البحث عن موقف متوازن داخل الاتحاد الأوروبي
وأضاف: “الرئيس تبون، نفى ما يتردد في بعض الدوائر الإقليمية والجوارية، وأكد أن بلاده دولة مسالمة، شغلها الشاغل هو إحلال السلم في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط وفي كل بقاع العالم، ومنذ استقلالنا ونحن نقوم بجهود تطبعها السلاسة والتفاهم عن طريق الحوار، بعيدا عن العنف، من أجل تسوية عدة أزمات”.
وذهب مراقبون سياسيون، الى أن التفعيل المتسارع للعلاقات الجزائرية- السلوفينية خلال العامين الأخيرين، ينطوي علاوة على اتفاق حركة تنقل أفراد السلك الرسمي داخل فضاء شنغن، الذي ظل حصرا على فرنسا منذ العام 2013، يريد كسب موقف سلوفينيا داخل الاتحاد الأوروبي لتحقيق توازن تجاه ملفي فلسطين والصحراء الغربية، إنشاء قاعدة تفاهمات اقتصادية مع دول أوروبا الشرقية كبديل عن الفضاء الأوروبي الغربي المرتبط بأبعاد معقدة، وهو ما أثبتته مسارات الأزمة القائمة مع فرنسا.
وغابت الجزائر عن احتفالية روسيا بعيد النصر، التي دعت اليها حوالي 30 رئيس دولة، وقادة عسكريين، فيهم من أظهر خصومة للجزائر، في اطار التحالف القائم في منطقة الساحل، على غرار قائد المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو إبراهيم تراوري، والماريشال الليبي خليفة حفتر.
وشكل الغياب المذكور، حلقة جديدة من مسلسل الأزمة الصامتة بين الجزائر وروسيا، منذ انتكاسة الانضمام الى مجموعة “بريكس” العام 2023، ويبدو أن مساعي التطبيع بين الطرفين التي قادها مسؤولون روس خلال الأشهر الماضية، وعودة الحديث عن صفقات تسليح، لم تنجح في رأب الصدع، في ظل إصرار موسكو على إرساء محور صلب يبدأ من شرق ليبيا التي تستقبل السلاح وأفراد الجيش الذين كانوا في سوريا قبل سقوط نظام بشار الأسد، الى غاية بوركينا فاسو، وحتى الطوغو وأفريقيا الوسطى، مرورا بمالي والنيجر.
ويبدو أن الجزائر تريد أن تؤكد لشركها التاريخي، أنها ترفض إعطاء شرعية لأطراف غير معترف بها في المحافل الدولية والقارية، وأن سياستها الخارجية تقوم على الجزائر دائما ما تتبنى مبدأ الشرعية الدولية.
كما أن رسالتها واضحة حول مراقبة تمدد النفوذ الروسي، دون أن تحسب ضمن تكتله أو محوره، وأنها لن تكون أداة من أدواته داخل أفريقيا، لأجنداته في أفريقيا، فضلا عن التمسك باستقلالية القرار السيادي وعدم الانجرار وراء المحاور، وأنها لن تكون مطية لاضفاء الشرعية السياسية على سلط غير شرعية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس