المستعمِر والمستعمر؛ وهم العلاقة البريئة

13
المستعمِر والمستعمر؛ وهم العلاقة البريئة
المستعمِر والمستعمر؛ وهم العلاقة البريئة

عبدالحفيظ بن جلولي

أفريقيا برس – الجزائر. كانت ستمر زيارة ماكرون للجزائر دون جدل لو كانت خارج سياق التاريخ المأساوي المحكوم بعلاقة المستعمِر/ المستعمر، كانت سوف تدخل ضمن البرامج السياسية والزيارات المتبادلة بين مسؤولي الدول، تخضع لبروتوكول المعاملة بالمثل والبساط الأحمر، لكن ماكرون ليس أي رئيس، يحضر في الوعي الجمعي لـ «الكتلة الوطنية» باعتباره مستعمِرا بكل ما يمثله الاستعمار من اضطهاد، ويكفي للتدليل على هذه الحقيقة أن نعرف من خلال مذكرات محمد أرزقي بركاني «المحتشد التأديبي جنين بورزق» ترجمة فيزازي أحمد، الذي سجن في معتقل «جنين بورزق» الرهيب لمدة ثلاث سنوات (1941 – 1943) أن المعتقَل «لم يعد معسكرا تأديبيا وحسب، بل نظام اضطهاد: سوط، جلد، ضرب بأعقاب وحراب البنادق مسلط على كل معتقل دون تمييز، وكل من يجرؤ على فتح فيه للاحتجاج. الجوع، البؤس، العمل القسري والشاق.

أكثر من عشرة أشهر دون لمس قطعة واحدة من الصابون ولا ماء لأن المضخة مكسورة. مسموح للمحبوس جلب الماء بالقرب من الحديقة مرتين في اليوم». كل هذا لا يهم المستعمِر، الأهم الاستيلاء على الجغرافيا وقهر إرادة المستعمَر وإخضاعه للإرادة الاستعمارية التي لا ترى سوى مصالحها، وبالتالي، تندرج هذه الزيارة ضمن وعي «سيكو ـ سياسي».

الذاكرة الجريحة والوضع التاريخي للمستعمر

من غير الممكن أن تتنازل «الجماعة الوطنية» عن ذاكرتها الجريحة، الموشومة بالألم الاستعماري. تشمل «الجماعة الوطنية» الشعب والسلطة، سوى أن حساباتهما مختلفة، ولو أن السلطة تدعي أنها لا تقوم إلا بما يحقق مصلحة الجماعة الوطنية، فاستقبال ماكرون يدخل ضمن حسابات السلطة خارج حسابات الشعب، الذي يعبر عن رفضه الزيارة بما يتاح له من أدوات التعبير السلمي، وما المنشورات الساخرة والناقدة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والهزء من زيارة محل «ديسكو ـ مغرب» بل واستقبال ماكرون بــ «وان – تو – ثري فيفا لالجيري» إلا عينات من طرائق الاشمئزاز من تاريخ «العفن» الاستدماري الفرنسي، الممزوج بالقهر والمحو والتدمير الذي مارسته الآلة الجهنمية لـ»الأنوار» الفرنسية.

جاءت هذه «الأنوار» لتحرر تلك المستعمرات من «ظلامية» هوياتها ومساراتها الطبيعية في التاريخ والمنسجمة مع حقيقة شخصية تلك المجتمعات.

يستحيل أن تتجاوز استراتيجية الذاكرة الوطنية علاقات المقابلة بين الوضع الاستعماري المُحتل والوضع التاريخي للمستعمر، التي تتمثل في:

1 ـ القوة والضعف: قوة المستعمِر وضعف المستعمر، ما أتاح للأول ممارسة نوع من «السادية الجماعية» على «إرادة الموضوع» من أجل تحقيق «قابلية الخضوع» في الأعماق النفسية للمستعمر.

2 ـ الهيمنة والخضوع: اعتمد المستعمِر بعد استتباب الأمر له ميكانيزم الهيمنة باعتباره القوي، مبادرا إلى قهر إرادة المستعمر عن طريق «الصدمة والترويع» «تفتيت الإرادة الجماعية» و»تذويب الشخصية».

3 ـ صدام الوعي (وعي المجال الحيوي ووعي المجال الإنساني) أو ما يمكن تسميته بـ»عودة الوعي» و»صحوة الإرادة» المستضعفة في مواجهة «القوة الغاشمة» فالاستعمار لا يبحث سوى عن مناطق توفر له المواد الأولية لصناعاته، وبالتالي، استيلائه على مقدرات الشعوب، بعد ذلك يبحث عن اليد العاملة الرخيصة أو المجانية فيستعبد البشر، ولمواجهة هذا الوعي التدميري، انبثق «الوعي بالإنسان» في داخل المستعمر، وهو الوعي الذي كان في كامل جاهزيته لاستقبال ماكرون المستعمِر.

مهما حاول المستعمِر تحويل الأنظار نحو الجانب الإنساني في مهمته السياسية، عبر محاولات التقرب من «المجال الحيوي الخدمي» أو»المستعمرة» السابقة، إلا أن سلوكاته «الغبية» تكشف الدواخل العميقة في وعيه الباطن، المغلفة بقصديات تشكيل «المستعمر الجديد « néo colonisé، حيث شكك ماكرون قبل زيارته بشهور قليلة في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، كما أنه وصف النظام السياسي الجزائري بالبوليتيكو ـ عسكري، متهما إياه باستغلال ملف الذاكرة لأغراض سياسية، هل هذه تبدو تصريحات عفوية؟ غير ممكن لأنها تندرج ضمن أجندة استعمارية تهدف إلى خلق نموذج «المستعمر الجديد» عن طريق استفزاز «الشخصية الوطنية» بالمساس بمقومات وجودها الحيوية السياسية والتاريخية.

المستعمِر والأنثروبولوجيا بولتيكو ـ ثقافية

لماذا زيارة وهران؟ لماذا ديسكوـ مغرب؟

طبعا هذه محاولة لفهم ما حدث وليس للجزم في تفسير الحدث. إن وهران في ذاكرة المستعمِر هي «حظيرة إسبانية» ولا تمثل في لحظة الزيارة سوى أحد أمرين: إما الصراع من أجل التموقع في «الدول المفتاحية» وبالتالي، استباق أي محاولة لإسبانيا من أجل التمركز في الفضاء الاستراتيجي الجزائري، خصوصا بعد الحرب الروسية الأوكرانية، التي منعت وصول الغاز الروسي إلى أوروبا.

وممكن أن تكون زيارة ماكرون الوهرانية مبادرةُ مساندةٍ بين بلدين استعماريين، بعد الخلاف الجزائري الإسباني الأخير، ومنه تكون الزيارة تذكيرا للجزائر بماضي وهران الإسباني الاستعماري.

لكن لماذا ديسكو ـ مغرب وما دخله في حرب التأويلات لزيارة هذا الإيمانويل لوهران؟ يبدو لي، أن هنا يتكشف الوجه الاستعماري للأنثروبولوجيا، فموقع المحل في بناية ذات معمار كولونيالي، ورغم شهرتها إلا أنها حافظت على عتاقتها حتى إنها تبدو ككوخ، وهو ما يحيل رمزيا إلى الذاكرة الكولونيالية، باعتبار تكريسها في الراهن الاستقلالي، فاللحظة الماكرونية هي لحظة استعادة وليست لحظة زيارة، لكن هناك بعدا آخر للحضور الماكروني في ديسكو ـ مغرب، وهو المُمٓثل في الصدى الذي اكتسبته أغنية الراي، بعد هجرة معظم أصواتها إلى بلد العم فولتير، وفي ذلك إحالة عميقة إلى احتلال الذاكرة الثقافية/الفنية الوطنية بدلالة ،»الراي التاريخي» وليس النسخة الشبابية المشوهة.

ليس المقصود بوعلام صاحب ديسكو ـ مغرب، ولكن رمزية المحل، لأنه لو كان الهدف المعين شخص بعينه لما تعدد الأشخاص (الزهوانية، السيكتور) إلا أنهم يمثلون ديكور الاستخفاف بالتاريخ الوطني، باعتبارهم القيمة اللامعتبرة في الوعي الوطني المعتبر، من جهة، ومن جهة أخرى وبدلالة عامل السن فهم يمثلون الماضوية المتهرئة، مقابل الحداثة المنتصرة (ماكرون الشاب).

ولكن لا يخلو اختيارهم من فرضية «الخدمة المقدٓمٓة» وما تفرضه من مكافأة، والخدمة والمكافأة، تنطرح فكرة الإنجاز.. فماذا كان إنجازهم؟ هكذا حاول مرة أخرى ماكرون الاستعماري إهانة الجزائر التاريخية، لكن الرفض الشعبي خسّره الرهان.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here