أفريقيا برس – الجزائر. لا يأتي اسم العالم والبروفيسور حبيب زايدي في سجلات البحث العلمي العالمي من باب الصدفة، بل بوصفه واحدًا من الأدمغة الجزائرية التي ساهمت في إعادة رسم ملامح الطب النووي والتصوير الإشعاعي، والربط بين الفيزياء الدقيقة والتطبيقات السريرية المنقذة للأرواح. من مدينة العلمة بسطيف، حيث تشكّلت أولى ملامح الشغف بالعلم داخل أسرة تربوية، إلى مخابر جنيف المتقدمة، رسم زايدي مسارًا علميًا جعله من رواد التصوير الطبي الكمي ودمج الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض، خاصة السرطانية منها.
في هذا الحوار، يفتح العالم الجزائري نافذة على تجربته الأكاديمية والبحثية، ويشرح بلغة واضحة كيف غيّرت التقنيات الحديثة فهمنا للجسم البشري على المستوى الخلوي، كما يقدّم تشخيصًا صريحًا لواقع البحث العلمي في الجزائر، ويضع تصوّرًا عمليًا لما يمكن أن تكون عليه منظومة الطب النووي. في حوار يتجاوز السيرة الشخصية يتحدث الباحث حبيب عن ابتكاراته في الطب النووي، ويفتح ملف التكوين والمخابر، والذكاء الاصطناعي في المنظومة الصحية.
بروفيسور زايدي، أنتم من الأسماء الجزائرية التي صنعت لنفسها موقعًا علميًا مرموقًا في العالم في مجال الفيزياء الطبية والطب النووي. نودّ أن نبدأ من الجذور…
كيف تتذكرون بداياتكم العلمية في الجزائر، وتحديدًا في مدينة العلمة التي وُلدتم فيها من أبوين معلمين؟ وهل كانت البذرة الأولى لطريقكم نحو الفيزياء الطبية قد زُرعت في تلك البيئة التعليمية البسيطة؟
أولاً، أود أن أشكركم على الشرف الذي منحتموني إياه بإجراء هذه المقابلة معي. أنا أَصلي من مدينة العلمة، ووالداي كانا معلمين غرسا فينا منذ صغرنا حب العلم والمعرفة واحترام المعلم. نحن جزء من جيل محوري أراد النجاح، ومن عوامل هذا النجاح الجودة الاستثنائية للمعلمين الذين درسونا من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية. وبالمناسبة، خلال زيارتي الأخيرة لمدينة العلمة حظيت بفرصة لقاء السيد عظيمي، الذي كان معلمي في الصفين الثاني والخامس الابتدائي،، وكان ذلك لحظة مؤثرة للغاية.
إن اختياري لمهنة أكاديمية في مجال الفيزياء الطبية يعود في جزء كبير منه إلى الصدفة التي لعبت دوراً إيجابياً في هذا الشأن. كنت منجذباً إلى علوم الكمبيوتر والفيزياء، واهتممت بشكل خاص بالتصوير غير الطبي في جامعة فرحات عباس بسطيف.
بعد تخرجكم من جامعة سطيف والتحاقكم بسويسرا، كيف كانت خطواتكم الأولى في عالم البحث العلمي؟ وما اللحظة التي شعرتم فيها بأنكم وجدتم شغفكم الحقيقي في الفيزياء الطبية والتصوير الإشعاعي؟
بعد حصولي على شهادة مهندس في الإلكترونيك من جامعة سطيف، انضممت إلى ما كان يُسمى آنذاك المحافظة السامية للبحث بعد اجتياز امتحان وطني حيث حظيت بفرصة أن أكون من بين العشرة أشخاص الذين تم اختيارهم. في إطار التدريب في الفيزياء الطبية، أجريت بحثي في جامعة لوند، مالمو في السويد تحت إشراف أحد كبار علماء الفيزياء الطبية (البروفيسور سورين ماتسون) الذي أدخلني إلى عالم البحث العلمي وحفز شغفي بالفيزياء الطبية. بعد حصولي على الماجستير في الفيزياء الطبية،لم تكن تجربتي كباحث في نفس المركز على مستوى توقعاتي، وقررت بعد زيارة مركز الأبحاث النووية في جنيف أن أطير إلى آفاق أخرى لمتابعة دراسات الدكتوراه في جامعة جنيف حيث انضممت إلى مركز رائد في التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني، بمستشفيات جنيف الجامعية. كانت هذه فرصة العمر بالنسبة لي، وأخيراً وجدت طريقي من خلال إجراء أبحاث متطورة في مجال مثير للاهتمام يقدم آفاقاً مثيرة للاهتمام على الصعيد التكنولوجي والتطبيقات الكلينيكية التي تركز على المريض.
أنتم اليوم عضو في مركز جنيف للعلوم العصبية، ومدير مختبر الأجهزة والتصوير العصبي في المستشفى الجامعي بجنيف. كيف تصفون طبيعة هذا العمل البحثي؟ وما هي أبرز المشاريع أو الاكتشافات التي تفخرون بقيادتها داخل هذا المخبر؟
البحث العلمي ليس عملاً كغيره من الأعمال، إنه شغف حقيقي يستغرق كل وقتنا ويشغل أذهاننا باستمرار. تحتوي الشريحة الأخيرة من عروضي العلمية على اقتباس من حائز جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979، البروفيسور عبد السلام، وهو مسلم، يقول ” العلماء أناس سعداء للغاية لأن عملهم هو أيضا هوايتهم”. تركز أبحاثي على محورين رئيسيين: الأجهزة الطبية الحيوية حيث نقوم بتطوير أجهزة تصوير طبي أصلية، وتطوير منهجيات مبتكرة في التصوير الكمي متعدد الوسائط، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة الصور واستخراج المعلومات ذات الأهمية البحثية الكلينيكية أو الأساسية. يتم تمويل هذه المشاريع بشكل عام من قبل الصندوق الوطني للبحث العلمي بسويسرا والمفوضية الأوروبية، أو مؤسسات خاصة أو الشركات. أحد المشاريع الرائدة التي تكتسي أهمية خاصة لمختبرنا ومؤسستنا هو تطوير جهاز تصوير طبي عالي الدقة الزمنية والمكانية مخصص لتصوير سرطان البروستاتا. يستخدم هذا المشروع أيضًا تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحقيق التصوير الكمي.
حصلتم على جوائز علمية رفيعة، منها جائزة الكويت للعلوم التطبيقية، وجائزة الخوارزمي الدولية، وجائزة الجمعية الأوروبية للأشعة…
ما المشروع العلمي أو الابتكار الذي ترونه الأكثر تأثيرًا في مساركم، خاصة ابتكاركم لطريقة التصوير الطبي التي تسمح برؤية الخلية السرطانية عند بداية نموها؟
العالم الذي يفهم مهمته جيدًا هو عالم متواضع وبسيط. إن النجاح الذي حققه المختبر الذي أديره وتمكنه من الحصول على اعتراف دولي يعود في المقام الأول إلى التزام وتفاني طلاب الدكتوراه والباحثين الذين شاركتهم شغفي على مدى سنوات طويلة. ومن المشاريع التي تركت بصمة خاصة في مسيرتنا التصوير الذي يجمع بين التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET) والرنين المغناطيسي (MRI) والمعروف باسم التصوير الهجين (PET/MRI). كنا من أوائل المجموعات التي اقترحت، في عام 2002، قبل ظهور هذه الطريقة في التصوير بوقت طويل، تقنية تسمح بإجراء تصوير كمي من خلال الجمع بين الطريقتين. كانت جنيف مركزًا رائدًا من حيث أننا كنا أول مركز يمتلك هذه التكنولوجيا ويستكشف تطبيقاتها السريرية العديدة في أمراض مختلفة، بما في ذلك طب الأعصاب وأمراض القلب والأورام.
نفهم من كلامكم أنكم تشتغلون على دمج عدة أنظمة للحصول على صور دقيقة للخلايا العصبية. هل يمكن تبسيط الفكرة للقارئ العادي؟ وما التطبيقات الطبية المنتظرة منها؟
بالفعل إن الهدف النهائي للتقنيات التي نطورها هو مساعدة الأطباء في إجراء التشخيص أو تحسين رعاية المريض من خلال تقييم أفضل لاستجابة المريض للعلاج، وتحديد مرحلة المرض أو إعادة تحديدها، وتخطيط العلاج بالإشعاع الخارجي أو الموجه. لذلك، فإن هدفنا هو تحسين أداء أنظمة التصوير للحصول على حساسية ودقة مكانية أفضل من أجل تحسين قدرتها على اكتشاف الأورام الصغيرة الحجم وغير المتمايزة، ولكن أيضًا لتوفير نماذج رياضية قوية تسمح بالتنبؤ بنتائج المريض من أجل اختيار المرضى الذين يمكنهم الاستجابة لخطط علاجية معينة. التطبيقات السريرية عديدة وتشمل طب الأعصاب (الصرع، الأمراض العصبية التنفسية،…)، طب القلب (أمراض القلب والأوعية الدموية، نقص التروية،…)، والأورام (أنواع مختلفة من السرطان).
إلى أي حد يمكن القول إن هذا الابتكار يفتح الباب أمام تشخيص مبكر للسرطان وإنقاذ الأرواح قبل تطور المرض؟ وما مدى تطبيقه حاليًا في المستشفيات أو مراكز الأبحاث؟
تقنيات التصوير التقليدية المستخدمة بشكل روتيني تلتقط صورة ثابتة لا تأخذ في الاعتبار تعقيد العمليات الفزيولوجية التي تحدث بعد حقن المستحضر الصيدلاني الإشعاعي. لقد اهتممنا بشكل خاص بعلم الأورام، الذي يمثل حوالي 90٪ من نشاطنا السريري، وقمنا بتطوير منهجية تولد تصويرًا بارامتريًا يسمح بتمييز أفضل بين الخلايا السرطانية والخلايا السليمة. وهذا يسمح فعليًا باختيار أفضل للمرضى للاستفادة من مختلف الاستراتيجيات العلاجية المتاحة أو استبعادهم من الخيارات المكلفة للمرضى والمجتمع دون تحقيق تحسينات كبيرة. وقد لقي هذا التطور استحسانًا كبيرا من طرف المختصين وأثار اهتمام الشركات التي اعتمدته في شكل منتج تجاري. ونتيجة لذلك، تُستخدم هذه التقنية في العديد من المراكز الطبية، وكذلك في مجال البحوث الطبية الحيوية.
هل تعتقدون أن الجزائر تمتلك كفاءات بشرية يمكنها قيادة مشاريع بحثية في الطب النووي إذا توفرت البيئة المناسبة؟
بلدنا العزيز لديه القدرات الفكرية والموارد اللازمة ليكون جزءًا من الدول المتقدمة التي تدفع عجلة التقدم. والأمر يحتاج الى سياسة تشجع الباحثين الشباب وتحفز المواهب لإعداد الجيل القادم. وإلا كيف يمكن تفسير أن المواطن الجزائري العادي يظل مجهولًا في بلده ويمكن أن يصبح شخصية دولية بارزة إذا أتيحت له الفرصة للاستقرار في الخارج، فلا كرامة لنبي في قومه.
مؤخرا، التقى وزير الصحة الجزائري البروفيسور محمد صديق آيت مسعودان والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، وعلى ضوء هذا اللقاء الأخير تم دراسة سبل توسيع أفق التعاون الجديد في مجال الطب النووي والعلاج الإشعاعي، هل يمثل ذلك خطوة نوعية يمكنها أن تغيّر واقع التشخيص والعلاج في الجزائر؟
نعم يمكن للشراكة أن تساعد في وضع سياسة صحية ترقى إلى مستوى التوقعات. أعتقد أن الوقت قد حان للتخلص من الاعتماد على المنظمات الدولية وتولي زمام الأمور في القطاعات الحساسة، مثل الصحة والتعليم والبحث العلمي، بغض النظر عن القيمة المضافة للوكالة أو غيرها من المنظمات الدولية. بلدنا قادر على النهوض ومواجهة التحديات بالموارد البشرية والمادية المتاحة له. يمكنه الاستعانة بمهارات مواطنيه الموجودين في أرض الوطن وفي الخارج لوضع خارطة طريق تسمح بإنشاء مراكز مرجعية إقليمية قادرة على تدريب الجيل القادم من الباحثين والأطباء المختصين.
من خلال خبرتكم الطويلة في الجامعات والمخابر الأوروبية، ما هي الركائز العلمية التي يجب أن تُبنى عليها برامج التكوين في الطب النووي داخل الجزائر؟ وهل بنيتنا التحتية جاهزة فعلاً لهذا النوع من التكوين المتقدم؟
أعتقد أن الأمر يتطلب أولاً إرادة قوية من المعنيين. يجب أن يتمكن بلدنا العزيز من وضع سياسة تُقدر العقل وتُقدر الجهد الفكري. مفتاح النجاح هو العمل الدؤوب، والرؤية الواضحة، والاستثمار في الموارد البشرية. وإذا كانت هناك دول تتقدم وأخرى تتراجع، فإن الإنسان هو الذي يصنع الفارق. ونحن مقتنعون بأن الذكاء الاصطناعي لن يقتصر على برامج البحث، بل سيكون له تأثير كبير على مهنتنا. وهذا يشمل بالطبع الطب النووي، لأنك إذا نظرت إلى عدد الأدوات الحاسوبية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي والمعتمدة من قبل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، فإن التصوير الطبي يتصدر القائمة.
اللقاء الذي جمع وزير الصحة الجزائري والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية تطرق فيه أيضًا إلى فكرة إنشاء مراكز مرجعية للتدريب في الجزائر، مثل مركز مكافحة السرطان بمستشفى باب الوادي، هل ترون الجزائر مؤهلة لتكون قطبًا إفريقيًا في مجال الطب النووي؟ وما الذي يجب فعله لتحقيق ذلك على أرض الواقع؟
كانت الجزائر رائدة في علاج الغدة الدرقية باستخدام اليود المشع في الستينيات بفضل أستاذ متمرس هو الأستاذ بن ميلود. والآن، كم عدد أساتذة الطب النووي في الجزائر في عام 2025؟ هذه المسألة تستحق أن تؤخذ على محمل الجد لتعويض النقص في الأطباء ذوي الرتب العالية الذي سيستمر في المستقبل. ومع ذلك، فإن بلدنا العزيز يتمتع بإمكانات هائلة، وقد لاحظت أن مركز باب الوادي قد تم تحديده بالفعل من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية كمركز تدريب إقليمي، وقد التقيت مؤخرًا بعدد من الأطباء الأفارقة الذين يتدربون في هذا المركز. الجانب الذي يجب دعمه بشكل أكبر هو التمهيد للبحث العلمي، الذي يظل جانبًا مهمًا من جوانب التدريب بعد التدرج. لا يمكن أن يحدث تقدم في الطب دون جيل من الأطباء القادرين على إجراء أبحاث متطورة بنفس المستوى الذي يتم إجراؤه في الجامعات الكبرى.
لو طُلب منكم الإسهام في إعداد برامج التكوين أو المرافقة التقنية بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما الرؤية أو القيمة العلمية التي يمكن أن تقدموها انطلاقًا من تجربتكم الدولية؟
أنا بالفعل خبير لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقد ساعدت العديد من المراكز في إنشاء مراكز للتصوير الجزيئي مثل باكستان. ولطالما استجبت لنداء بلدي، سواء كان ذلك للمشاركة في فعاليات علمية أم لإنشاء برامج أو مراكز مستشفيات. سأبذل قصارى جهدي للمساعدة في إنشاء برامج تدريب عالية المستوى وأبحاث متطورة. لا أهتم بما أسميه التظاهر غير المجدي. إذا كانت هناك مبادرات جادة، فنحن دائمًا مستعدون للمشاركة، ولن أدخر أي جهد من أجل بلدي.
من الناحية الأخلاقية والعلمية، كيف يمكن ضمان أن تبقى استعمالات الطاقة النووية في المجال الطبي موجّهة لأغراض سلمية بحتة؟ وما الدور الذي يجب أن يلعبه العلماء في حماية هذا البعد الإنساني للعلم؟
يجب القول إن تدريبنا في الفيزياء النووية يركز بشكل خاص على التطبيقات السلمية للإشعاعات المؤينة في مجال الصحة. أنصح زملائي بقراءة مذكرات روبرت أوبنهايمر حول القنبلة الذرية أو مشاهدة الفيلم. ومتابعة ندم الفيزيائي على استعمال اختراعه في الحروب، فلا يوجد عالم جدير بهذا الاسم يرغب في إعادة ما عاشته اليابان في هيروشيما وناغازاكي عام 1945. لقد شارك طلابي في الدكتوراه مؤخراً في مؤتمر في يوكوهاما وزارو هذه المدن بهذه المناسبة، حتى بعد مرور 80 عاماً، لا يزال الأمر مروعاً.
أخيرًا، ما رسالتكم إلى السلطات الصحية والجامعات الجزائرية بشأن الاستثمار في البحث العلمي التطبيقي؟ وهل تفكرون في نقل جزء من خبرتكم العلمية إلى الجزائر أو المساهمة في تأسيس مشاريع بحثية مشتركة مستقبلاً؟
أقول باختصار “شعب يقرأ… شعب لا يجوع ولا يستعبد”. وأؤكد أننا دائماً مستعدون للاستجابة لأي مبادرة جادة والأمر بيد المسؤولين عن هذا القطاع.
المصدر: الشروق
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس





