حدود المشترك في الرؤية العربية في إعلان الجزائر

7
حدود المشترك في الرؤية العربية في إعلان الجزائر
حدود المشترك في الرؤية العربية في إعلان الجزائر

بلال التليدي

أفريقيا برس – الجزائر. بعد جدل طويل حول القمة العربية، ومدى إمكان انعقادها من عدمه، ومقومات نجاحها أو إخفاقها، اجتمع القادة العرب في الجزائر، وصدر في ختام الدورة الحادية والثلاثين للقمة العربية «إعلان الجزائر»، ليفتح نقاشا جديدا، يدور هذه المرة، حول سؤال سقف الإعلان، وهل حقق الغرض من شعار القمة الذي رفع تحدي «لم الشمل»؟

لا نريد في هذا المقال أن نركز على بعض الإشكالات التي واجهت القمة، ودلالات مستوى التمثيلية فيها، ولا نريد أيضا أن نسلط الضوء حول بعض الخلافات التي تفجرت أثناءها، فهذه القضايا، التي غالبا ما يتم تضخيمها، لا يكون لها أهمية إلا حين تؤثر على طبيعة المخرجات التي صدرت عن القمة.

والحال، أن التوافق الذي حصل في القمة، والذي يعبر عن السقف الممكن للمشترك بين الدول العربية، يجعل تلك الخلافات أقل قيمة من دلالات هذه المخرجات نفسها، ومدى قدرتها على استشراف المؤمل منها، أي لم شمل الأمة العربية وتسوية النزاعات البينية وتحقيق المصالحات وحل الأزمات التي تمر بها بعض الدول العربية، ومعالجة معضلة الأمن بجميع مستوياتها الغذائية والطاقية والمائية.

من المثير في هذه القمة أن النقطة المركزية (الأولى في فقرات الإعلان) التي تم التوافق حولها بدون وجود أدنى خلاف هي القضية الفلسطينية.

قد يفسر البعض ذلك تفسيرات مختلفة، منها الرهان الذي وضعته الجزائر على هذه القضية ودورها في إنجاز نسخة أخرى من المصالحة بين الفلسطينيين. وقد يعتقد البعض الآخر، أن السبب يعود للتحديات التي أضحت تواجهها القضية الفلسطينية، وبشكل خاص قضية القدس الشريف، لكن في الجوهر، لا التفسير الأول ولا الثاني، يبرران إيلاء هذه القضية الأهمية في هذا التوقيت، ذلك أن السقف الذي تم التعبير عنه حولها، بقي في حدوده الدنيا، التي تم التعبير عنها في المبادرة العربية (2002)، أي إحياء مبادرة السلام العربية، مع أن السياق، يسير في الاتجاه المعاكس، فالتهديدات الإسرائيلية للقدس والضفة الغربية وحصار غزة، يفترض لغة أخرى، غير لغة المبادرة العربية للسلام. فالواضح من «إعلان الجزائر» وأيضا في ترتيب فقراته، أن الفقرة المرتبطة بهذه المبادرة، سبقت الفقرات المنددة بالسياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، والأغرب من ذلك كله، أن فقرة التمسك بمبادرة السلام، سبقت الفقرة المتعلقة بالمصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وهو ما يعكس الحالة العربية، التي تعتبر التسوية شرطا سابقا على ممارسة الضغوط السياسية لتوفير شروطها.

واضح من لغة «إعلان الجزائر»، أن سياسة الترضية للمواقف العربية، كانت المعيار المعتمد في تحقيق التوافق العربي، إذ تم الحرص في البيان على الإشادة بكل الأطراف التي بذلت مساعي ما من أجل القضية الفلسطينية، وحتى وإن كان الخلاف بينها حادا حول شكل التعاطي مع القضية، فقد تمت الإشادة بجهود الملك محمد السادس في رئاسة لجنة القدس، وفي المقابل، تمت الإشادة بجهود الجزائر في المصالحة بين الفلسطينيين، مع أن الخلاف في تعاطي البلدين في منظور كل واحد منهما للآخر صار حديا خاصة من قبل الجزائر.

التفسير الذي نميل إليه في هذا الموضوع، هو عدم وجود أي توافق حقيقي بين الأطراف العربية، يمكن أن يرتفع لدرجة العنوان البارز، وأن القضية الفلسطينية، بتحدياتها الراهنة، لاسيما ما يتعلق بالقدس، شكلت هذا العنوان المنقذ، أو بالأحرى قضية الأجماع الوحيدة الممكنة، لكن، بسقف أدنى، يقدم نيات التسوية على أي سياسة عربية مشتركة تمارس الضغوط الممكنة لفرض شروط تسوية تحصن ثوابت القضية الفلسطينية.

قد يعترض البعض، ويرى أن بنود «إعلان الجزائر» تضج بالنقاط التي تعكس التوافق العربي المشترك، منها تعزيز العمل العربي المشترك لحماية الأمن القومي العربي بمفهومه الشامل، ومنها المساهمة في حل وإنهاء أزمات بعض الدول العربية، لكن، هذه الصياغة العامة، لا تعني شيئا عند التماس التفاصيل، أي القضايا الإشكالية التي تعصف بهذا المشترك العربي، فعند الحديث عن ليبيا، خلت الفقرة من ذكر أي حل سياسي متوافق حوله عربيا، وتم الاكتفاء بإعلان التضامن مع الشعب الليبي ودعم الجهود الهادفة لإنهاء الأزمة الليبية. وفي موضوع سوريا تم الحديث عن «قيام الدول العربية بدور جماعي قيادي للمساهمة في جهود التوصل إلى حل سياسي». وفي اليمن تم التأكيد على «دعم الحكومة الشرعية اليمنية ومباركة تشكيل مجلس القيادة الرئاسي ودعم الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية وفق المرجعيات المعتمدة».

تبدو هذه العبارات في الظاهر معبرة عن المشترك العربي بخصوص هذه القضايا، لكنها في الواقع، عبارات عامة، تخفي واقع الصراع بين المحاور العربية والإقليمية، وتعثر التوصل إلى توافق عربي بشأنها، فالقمة تدرك أن تسوية الوضع السوري، هو أمر خلافي لم يتبلور بشأنه توافق عربي بالمطلق، وتدرك أيضا أن الموضوع الليبي، هو الآخر، تتنازعه رؤى عربية وإقليمية متنازعة، بل وتحصل تحالفات مختلفة بين أطراف عربية وأخرى إقليمية ودولية، بالشكل الذي يعيق حصول توافق عربي في هذه القضية، على الأقل في هذه المرحلة، فرؤية مصر، ليست هي رؤية الإمارات، ورؤية المغرب تختلف عن الرؤيتين السابقتين، ورؤية الجزائر هي الأخرى مختلفة، ولعل هذا ما يفسر اللجوء إلى عبارات عامة، لا تقول أي شيء عن الحل السياسي.

المثير في هذا الإعلان، أنه في الوقت الذي تمت فيه الإشارة إلى صراعات عربية عربية (أريتيريا وجيبوتي) وتوترات عربية إقليمية (اليمن والسعودية)، فقد خلا الإعلان من أي إشارة للخلاف بين مصر وأثيوبيا، بل خلا من تقديم أي دعم أو تضامن مع مصر والسودان بهذا الخصوص.

هذا السقف الواطئ من التوافق العربي، والذي يعكسه اللجوء لعبارات عامة، يخفي تفاصيل الخلاف، ويعبر عن استحالة تحقيق التطلع العربي بشأن تسوية النزاعات، رغم أن الإعلان أكد على مبدأ احترام سيادة الدول ورفض التدخلات الخارجية بجميع أشكالها في الشؤون الداخلية للدول العربية، واللجوء عوض ذلك لمبدأ الحلول العربية للمشاكل العربية (تقوية دور الجامعة العربية).

الواقع أن المواقع التي تمت فيها الإشارة إلى هذا المبدأ، تثير تساؤلات عدة، إذ لم يستعمل في سياق مخصوص إلا عند الحديث عن أمن الخليج، وعند سياق العلاقات العربية مع جوارها الإفريقي والأوروبي والإسلامي، وهو ما يعني أن التوافق العربي في هذه القضية ليس على إطلاقه، ففي موضوع ليبيا الذي يطرح فيه موضوع التدخل الإماراتي والتركي، وفي شمال إفريقيا، حيث يشتكي المغرب من تغول النفوذ الإيراني وتهديده مصالحه الحيوية، لم يتم الحديث عن هذا المبدأ، وإنما تم قصره على أمن الخليج، حيث الإشارة واضحة إلى التهديد الإيراني، كما تم الحديث عن فضاءات الجوار الأخرى، لتجنب أي حساسية خلافية، تثير موضوع التدخل الإماراتي أو المصري أو التدخل التركي في ليبيا، أو التدخل الجزائري في شؤون تونس.

ثمة نقطة أخرى مهمة في سياق الحديث عن سقف المشترك العربي، فلأول مرة، يتم الحديث عن مشترك رئيس يتعلق بالأمن بجميع مستوياته، لاسيما منه الغذائي والطاقي والمائي، بل ويتعزز الحديث عن التكامل الاقتصادي، لكن، المفترض أن تحقيق الحد الأدنى من هذا التطلع الضخم، يتوقف على إجراء المصالحات العربية، فالعلاقات العربية البينية في أسوأ أحوالها، وحتى الأمن الطاقي، الذي يفترض أن الدول العربية، قادرة أن تلعب دورا مهما فيه، بحكم أن دولها المصدرة للطاقة هي من بين أكبر الفاعلين في السوق الدولية، ليست هناك مؤشرات تثبت وجود سياسة حقيقية في هذا الاتجاه، فهذه الدول تحت واقع الضغط الأمريكي والأوربي، منشغلة بتلبية حاجيات الاقتصاد الأوروبي أو حساباتها الخاصة، أكثر مما هي منشغلة بتلبية النقص الفظيع التي تعانيه بعض الدول العربية من مصادر الطاقة.

يمكن القول بأن أكبر رابح من هذه القمة، هي الدول الخليجية، التي حصنت القمة مواقفها وأعطتها تغطية سياسية سواء تثمين تبنيها لسياسة عدم الانحياز في الحرب الروسية لأوكرانيا، أو رفض التدخل الأجنبي المهدد لأمنها وسيادة ووحدة أراضيها، أو دعم سياستها في تخفيض إنتاج النفط ضمن منظمة أوبك +، أو تجنب أي إشارة سلبية لبعض دولها، حتى في معرض الحديث عن رفض التدخلات الأجنبية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here