حطَّموا «المجنون» الذي غيَّر الجزائر

15
حطَّموا «المجنون» الذي غيَّر الجزائر
حطَّموا «المجنون» الذي غيَّر الجزائر

توفيق رباحي

أفريقيا برس – الجزائر. وصول الأمر بالسياسي الجزائري رشيد نكاز إلى حدِّ استجداء الرئيس عبد المجيد تبون، من زنزانته، لإطلاق سراحه كي يهاجر إلى عائلته في أمريكا ويتفرغ لعلاج أمراضه، مقابل اعتزال السياسة، دليل على مرحلة مؤلمة سوداء بلغها الشأن العام في الجزائر.

من السهل أن نتجادل إلى ما لا نهاية حول مّن فعل ماذا. لكن لا شيء سيلغي حقيقة أن المسؤول الأول والأخير عن مأساة نكاز وهذا الظلام الحالك الذي يلف الجزائر هو النظام الحاكم بمقاربته الأمنية لكل شيء وسياسة الخنق المطلق التي يمارسها منذ منتصف 2019.

للقارئ غير الجزائري: نكاز جزائري في منتصف الأربعينيات من العمر. خريج جامعة السوربون بباريس. نشأ في فرنسا وبنى ثروة هائلة بعرق جبينه. اشتهر في فرنسا بأعماله الخيرية ودفاعه بماله عن المسلمات المحجبات في وجه الضغوط القانونية التي تلاحقهن بسبب الحجاب. عُرف بثقافته العامة الواسعة ونهمه للكتابة والقراءة، وبقدرته الهائلة على خوض الجدالات وإنتاج الأفكار. في منتصف العقد الماضي، وبينما كل الجزائريين يحلمون بالهجرة إلى أوروبا وأمريكا، ترك نكاز كل شيء وعاد إلى الجزائر. استقر بين أهله وأقارب والديه في بلدة منسية بولاية الشلف الريفية (200 كلم غرب العاصمة). تعلّم اللغة العربية، واكتشف المجتمع الجزائري حتى حفظه عن ظهر قلب. بدأ الخوض في الشأن العام ودخل العمل السياسي بقوة، لكن بخليط من السذاجة والصدق. بسرعة تحوَّل إلى أيقونة تنغّص حياة نظام بوتفليقة وعصابته. طارد اللصوص وسُرَّاق المال العام في السر والعلنية، في الجزائر وفرنسا، بذكاء ومعرفة بالقوانين، وبتهوّر أيضا. ردوا عليه (آل عمار سعيداني) بالضرب المبرح والتهديد بالتصفية لكنه لم يستسلم. تنازل عن جنسيته الفرنسية ليمارس السياسة بحرية ويترشح للانتخابات لأن القانون الجزائري متشدد إزاء الجنسية المزدوجة (ظاهريا فقط، نصف وزراء بوتفليقة مزدوجو الجنسية وأغلب المسؤولين الجزائريين وأفراد عائلاتهم يحلمون في الليل والنهار بالجواز الفرنسي). ترك زوجته الفرنسية وابنه الوحيد في أمريكا وراح يصول في الجزائر من أقصاها إلى أقصاها مشجعا الناس بأساليب سلمية حضارية على الاستيقاظ من سباتهم. بعضهم ظنّه مجنونا. هناك من وصفه بالأحمق الجاهل بالجزائر فمن ذا الذي يجرؤ على المطالبة بإسقاط صنم اسمه بوتفليقة. آخرون قالوا إنه باحث عن مجد وشهرة. كثيرون كانوا يتابعون أخباره بهدف التسلية والتندر. آخرون اختلفوا معه بسبب جرأته وأساليبه غير المألوفة والمثيرة للجدل. كرهه كثيرون وتمنوا موته نظرا لما يسبّب لهم من إزعاج وخوف من الفضيحة.

هناك حتما الكثير من أسباب الاختلاف مع نكاز. فقد يكون في الرجل قليل مما قيل عنه أو كثير، لكن لا شيء ينزع عنه الفضل في تحريك مياه الجزائر الراكدة. وسيحفظ التاريخ اسمه حتى ولو مسبوقا بصفة المجنون أو المغامِر.

ثم بزغ الفجر. جهود نكاز وتضحياته لم تذهب سدى. سنوات من التضحية بالمال والوقت والأعصاب ومن العمل المضني في العمق مستهدفا الإنسان الجزائري البسيط أثمرت يوم 22 شباط (فبراير) 2019.. الحراك الذي أطاح ببوتفليقة وعصابته وفتح الطريق لما بعده بما في ذلك وصول عبد المجيد تبون للرئاسة. اليوم يجب الاعتراف لنكاز بأنه كان أحد مفجّري ذلك الحراك الشعبي الهائل، وأحد الذين أيقظوا الجزائريين من سباتهم وخدرهم. لولا تضحيات نكاز (وأسباب وموضوعية أخرى) لاستمرت الجزائر في التسبيح بحمد بوتفليقة، ونخبها السياسية والإعلامية والثقافية في الركوع أمام صورته. لولا «جنون» نكاز وأساليبه الجديدة «الغريبة» لَوَاصل الوزراء والمسؤولون المدنيون والعسكريون الوقوف في الصف ساعات منتظرين مقابلة شقيقه الأصغر بضع دقائق.

رجل بهذا الرصيد وكل هذا الاستعداد للتضحية لا يستسلم. وبما أنه استسلم، فلا بد أنه خضع لابتزاز خطير أو فعل تحت وطأة المرض الجسدي والانكسار الروحي. ولا بد أنه يمر بأسوأ أيامه. ولا بد أنه خيبته من الجزائريين بكل أطيافهم أكبر من أن توصف.

نكاز مسجون اليوم (محكوم عليه بخمس سنوات) بسبب نشاطه السياسي الحثيث في معارضة نظام تبون سلميا. كالعادة، لفّق له النظام تهم الإرهاب وتهديد الوحدة الوطنية وغير ذلك من الاتهامات المُعلَّبة ليُجهز عليه.

في السجن تفاقمت أمراض نكاز وأُصيب بأخرى لينتهي به المطاف بسرطان البروستات ومتاعب في التنفس وفقدان السمع. لكن أخطر ما أُصيب به نكاز الإبادة المعنوية، لأن ما تعرّض له هو، ببساطة، عملية اغتيال معنوي مُحكمة ومدروسة. أراد هذا النظام أن يُلقّن نكاز درسا ويجعله عبرة للآخرين. الهدف النهائي تكميم الأفواه وإشاعة جوٍّ من الترويع يقضي على أيّ تشويش على الولاية الرئاسية الثانية لتبون. الضحية الثانية لهذا الجو هو الأديب والسياسي عز الدين ميهوبي مع فرق أن الأخير «استسلم» قبل أن تبدأ المعركة.

فات هذا النظام أنه بإذلال نكاز وقتله معنويا كان أيضا يطلق النار على قدمه. في المقابل، برسالته إلى تبون، حشر نكاز جلاديه في الزاوية، من حيث لا يدري ومن دون أن يقصد: رفض طلبه يعني الإصرار على قتله المعنوي وحتى موته الجسدي. الموافقة على طلبه والسماح له بالهجرة إلى خارج الجزائر معناها تشجيع شخص على الانتحار المعنوي بمساومته بالمنفى أو السجن.

المشهد مؤثر ويشبه حالة إنسان محطم يستجدي قتلا رحيما. نعم، نكاز في السجن لكن سجَّانيه في ورطة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here