خيارات الجزائر لتطويق تصعيد مالي

1
خيارات الجزائر لتطويق تصعيد مالي
خيارات الجزائر لتطويق تصعيد مالي

صابر بليدي

أفريقيا برس – الجزائر. يبقى عمر الأزمات والصراعات كعمر الكائنات الحية والجامدة، تنطلق من مستصغر الشرر وتعيش مرحلة صعود إلى الذروة، ثم تشرع في الانحدار، والعبرة في الوقت المستنفد والجهد المبدد، فمنها المنهكة والمستنزفة ومنها العابرة، وهو ما يمكن إسقاطه على السجال المحتدم بين الجزائر ومالي والأزمة المستجدة بين الطرفين، فهناك الكثير من المعطيات التي تؤكد أنه لا طائل من ذلك، لأن عامل الجوار والنسيج السوسيولوجي والثقافي أكبر بكثير من ذلك، فما هي خيارات الجزائر لتطويق فصول الأزمة؟

لقد قال رئيس الوزراء المالي شوغويل مايغا، في آخر تصريح له في الجزائر، “ما لم يقله مالك في الخمر”، حيث حمّلها كل بلاوي بلاده، من سيادة مخترقة وأمن مضطرب وإرهاب ناشط ووحدة مهددة، وتجاهل كل الرصيد المتراكم منذ ستينات القرن الماضي، وجهود السلام التي بذلتها الدولة الجارة، منذ تسعينات القرن الماضي، وليس اتفاق السلم والمصالحة الوطنية فقط.

وربما كان ظهور رجل الدين محمد ديكو مع الرئيس عبدالمجيد تبون، في احتفالية تدشين الجامع الأعظم، إلى جانب العديد من الشخصيات الدينية والفكرية من العالمين العربي والإسلامي، المؤشر الذي رفع الحرارة لدى عقداء المجلس العسكري الحاكم، المشبعين بخطاب القومية والأمة والاستعمار والسيادة والوحدة.

ورغم خطاب التهدئة الذي تتبناه الدبلوماسية الجزائرية منذ اندلاع الأزمة بين البلدين، ومحاولتها عزل النخبة العسكرية الحاكمة عن الرأي العام المحلي والأفريقي، إلا أن الموقف يبقى في حالة الفعل ورد الفعل وينطوي على أكثر من ذلك، ما يوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها.

خلال العقد الأول لاستقلال الجزائر استقبلت تونس كاتب النشيد الوطني الجزائري الرسمي “قسما” المناضل والشاعر مفدي زكريا، بصفته معارضا سياسيا، واستقبلت الجزائر خلال العقود الموالية شخصيات تونسية معارضة، على غرار محمد مزالي قبل لجوئه إلى أوروبا، وراشد الغنوشي قبل لجوئه أيضا إلى بريطانيا، ورغم ذلك ظلت العلاقات بين البلدين مستقرة ومثالية، مقارنة بالعلاقات الأخرى في منطقة شمال أفريقيا، وكذلك أقام القائد العسكري المصري سعدالدين الشاذلي في الجزائر طيلة سنوات، ولم يكن سببا مباشرا أو غير مباشر في أي أزمة بين البلدين.

لقد مثل الخطاب الهجومي الذي ألقاه رئيس الوزراء المالي الانتقالي شوغيل مايغا في السادس والعشرين من فبراير الماضي ذروة جديدة في التصعيد الخطابي الذي تشنه باماكو ضد الجزائر، ولم يعد الأمر يتعلق بقرار وقف العمل باتفاق السلم والمصالحة الوطنية الذي رعته الجزائر منذ العام 2015، بل تعداه إلى هجوم غير مسبوق ينطوي على عدائية غير مفهومة، إلا إذا كانت المسألة تهدف إلى أكثر من مجرد قطيعة دبلوماسية أو قطع شعرة معاوية.

وبخلاف هذا الاتفاق الذي تحول الآن إلى قصاصة من الورق فإن الدور التاريخي والتقليدي للجزائر في الوساطة الإقليمية هو ما ينوي قادة المجلس العسكري الحاكم تفجيره، وذلك ليس بوسع هؤلاء تبنيه لولا الإيعاز الذي يريد خلط أوراق المنطقة وتحريك الرمال عكس مساراتها الطبيعية.

الخطاب السياسي المالي والحملات الإعلامية المنظمة ضد الجزائر، بتحميلها كل بلاوي البلاد وتعمد تشويه سمعتها، يترجمان عقيدة تتجاوز بكثير استقبال هذه الشخصية أو ذلك التنظيم، فاتهامها بـ“الجار المتطفل”، والتدخل في شؤون مالي الداخلية، والتواطؤ مع الجماعات الإرهابية المسلحة، ورعاية التنظيمات الانفصالية، والحفاظ على نظام العقوبات الدولية ضد مالي، وما إلى ذلك، يؤكد على أن الموقف مرشح لبلوغ مستويات أكثر خطورة، وأن العقداء مستعدون للذهاب بعيدا.

الدبلوماسية الجزائرية التي افتقدت إلى الحياد خلال السنوات الأخيرة في بعض بؤر التوتر الإقليمية بدواعي الشرعية، باتت مطالبة بفهم أكبر لخلفيات ودواعي التصعيد المالي، وتجريده من الذرائع التي يتحجج بها، وهناك فقط تتضح الحقيقة إذا كان العقداء منزعجين من تلك المآخذ، أم في أجندتهم أشياء أخرى؟

ولا ضير إذا راجعت لائحة الأصدقاء والشركاء، فحكام مالي الجدد هم واجهة لقوى خفية وأخرى علنية تريد إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية والإستراتيجية في الساحل الأفريقي، لاسيما وأن مفهوميْ المصالح والاحترام يبدوان غير واضحين في مواثيق اتفاقيات للشراكة والتعاون أبرمتها الجزائر مع قوى، باتت هي مصدر الاستقرار السياسي والعسكري.

وإذا كان اتفاق السلم والمصالحة قد تحول إلى قصاصة ورق عند المجلس العسكري، فإنه يبقى وثيقة تستمد شرعيتها من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وهما هيئتان لا يمكن للعقداء التمرد عليهما كما تمردوا على الرعاية الجزائرية، وأي حل للأزمة الداخلية يستوجب على الأقل التوقف عندها أو الانطلاق منها، فالعودة إلى مربع الصفر تعني الفوضى والاضطراب في مالي والمنطقة عموما.

يبدو أن القطيعة قد اكتملت الآن بين باماكو والحليف التاريخي والتقليدي، الذي وقف معها منذ ستينات القرن الماضي، وحتى عندما طالب الأزواديون من الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول إلحاق الإقليم بالجزائر لأسباب ثقافية وسوسيولوجية، سارع الرئيس الجزائري حينها أحمد بن بلة إلى رفض المقترح وأصر على أن يبقى الإقليم ضمن حدوده الجغرافية في مالي والنيجر.

الجزائر تدرك أن خطاب المجلس العسكري ضدها هو محاولة لإسكات المعارضة والاحتجاجات الداخلية، من أجل العودة إلى المسار الديمقراطي والمؤسسات المنتخبة، ولأن نواياه غير ثابتة في هذا المجال، فهو يبحث عن شماعة يعلق عليها تماطله بإعادة السلطة للمدنيين، وعن طرف أجنبي يشحن به الشارع المالي لتغيير اهتماماته من الوضع السياسي الداخلي إلى الوضع السيادي الإقليمي، ولذلك فإن تجريده من الذرائع المذكورة هو السبيل الوحيد لوضعه في حجمه وأمام شعبه.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here