داء «الكادر» في الجزائر

9
داء «الكادر» في الجزائر
داء «الكادر» في الجزائر

توفيق رباحي

أفريقيا برس – الجزائر. في اللغة الفرنسية يُقصد بكلمة CADRE الإطار المربع أو المستطيل الذي يشكّل الشيء أو يحيط به التصاقا. يُقصد بـ«الكادر» أيضا، وهي كلمة تُستعمل في المذكّر، الناس القيّمون على جهاز أو مؤسسة أو وزارة. في اللغة العربية الفصحى لأهل المغرب العربي ترد الكلمة كثيرا في هذا السياق، في استعمال حرفي بلا روح، للكلمة الفرنسية. لذلك كثيرا ما تقرأ أو تسمع من جزائريين عبارة «الإطارات السامية» عند حديثهم عن كبار المسؤولين في الإدارات المركزية ومسيّري الشركات الكبرى وغيرهم.

في المشرق العربي يُستعمل هذا المصطلح كذلك لتعريف المسؤولين والمسيّرين، لكن في صيغة الجمع فقط على ما أعرف. قد تسمع كلمة «كوادر» لكن يندر جدا أن تسمع «كادر» ويستحيل أن تسمع «إطار» في الحديث عن مسؤول كبير.

في العراق يستعملون عبارة «الكادر الطبي» مثلا في الحديث عن سلك الأطباء في منطقة أو منشأة صحية. في المقابل لا أعرف لماذا لا يستعمل الجزائريون «الكوادر العليا» ويصرّون على «الإطارات السامية»!

في الكلام اليومي الجزائري «الكادر» هو أيضا البرواز. ويُقصد به الصورة العائلية أو الشخصية التي تتم بروزتها لتُعلَّق على حائط أو توضع فوق أثاث ما.

لكن قصة الجزائر مع «الكادر» أكبر من مجرد استعمال لغوي. لقد ارتبطت الكلمة في اللغة السياسية الجزائرية خلال السنوات العشر الأخيرة ببرواز يحمل صورة الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة ينحني أمامها الوزراء و«الإطارات السامية».

عندما فقَدَ السياسيون والمسؤولون كرامتهم وبلغ تملّقهم ذروته، اهتدوا إلى «الكادر» لتمجيده والتقاط الصور معه للتعويض عن احتقار صاحب «الكادر» لهم وتكبّره عليهم.

«الكادر» آفة تأكل صاحبها قبل غيره.

«الكادر» هو الذي عجّل بسقوط بوتفليقة وعصابته.

ورغم ذلك لا يزال صامدا لأنه ذهنية سياسية متجذرة.

من سخرية القدر أنه قبل أسبوعين من حلول الذكرى السنوية الرابعة للثورة الشعبية على «الكادر» هناك بين الجزائريين من يجرؤ على رفعه، مع تغيير الصورة… عبد المجيد تبون بدل عبد العزيز بوتفليقة. أساتذة جامعيون كرَّموا «كادر» تبون في شبَه كبير مع ما كان يجري مع «كادر» بوتفليقة.

لن أصدّق أن رفع الأساتذة الجامعيين في باتنة بشرق البلاد «كادر» تبون تصرف عفوي. فهل طلبت منهم جهة ما (والي الولاية مثلا؟) فعل شيء ضمن بداية التسخين للولاية الرئاسية الثانية لتبون فتصرفوا بطريقة «حافظ مش فاهم؟».

هبَّة الرئاسة لإعلان براءتها من الأساتذة، وحتى التشهير بهم، محاولة لعلاج أعراض الداء لا أسبابه. حتى مدير الإذاعة، السيد محمد بغالي، محظوظ وجد من يهديه «كادرا» بصورته!

«الكادر» حتى وإنْ لم يُرفع كبرواز خشبي أو زجاجي يحتضن صورة الرئيس، آفة معنوية تنخر يوميا ما تبقى من سياسة في الجزائر، حتى وإن لم يتضمن صورة الرئيس، فهو آفة إذ لا فرق بين تكريم الرئيس برفع «كادره» أو بإهدائه «كادرا» (أو درعا) يتسلمه مدير مكتبه كما فعلت إدارة الجمارك قبل ثلاثة أسابيع.

تابع نشرات الأخبار في التلفزيون الجزائري ولن تلحظ أيّ اختلاف مع زمن المخلوع، اللهم في تغييب عبارة «فخامة رئيس الجمهورية» لتحل محلها «السيد رئيس الجمهورية» واختفاء عبارة «برنامج فخامة الرئيس» بوتفليقة لتعوّضها توجيهات تبون وأوامره.

في النشرات تسمع مع كل خبر محلي عبارات من قبيل «عملا بتوجيهات رئيس الجمهورية» أو «بتوجيه من رئيس الجمهورية». ستسمع من وزير الصحة وكبار مسؤولي القطاع أن «السيد رئيس الجمهورية (وليس الدولة الجزائرية) مهتم شخصيا بمرضى السرطان». ومن وزير التجارة أن «السيد رئيس الجمهورية (وليس الدولة) حريص على محاربة المضاربة وتوفير المواد الغذائية بأسعار معقولة». ومن وزير الإسكان أن «السيد الرئيس (وليس الواجب والمسؤولية) يطلب منا متابعة أحوال محتاجي السكن». وستسمع من المدراء والولاة والمسؤولين الأقل درجة إشادات متكررة بتوجيهات الرئيس.

لا أتصور وزيرا جزائريا أو «كادرا» رفيعا اليوم ينفذ مهمة رسمية دون أن يذكر مثل هذه العبارة اللازمة أمام المايكروفونات والكاميرات.

مدير الإذاعة تفوّق قليلا عندما بلَّغ تحياته من بشَّار في أقصى جنوب غرب الجزائر إلى رئيس الجمهورية «الذي وإن لم يكن موجودا بيننا إلا أننا نشعر دائما بأن روحه وقلبه ودعمه معنا، وهذا يدفعنا للأمام ويُشعرنا بمزيد من المسؤولية».

ما أشبه اليوم بالبارحة! عبارات السيد بغالي وأمثاله من المسؤولين مشتلة مثالية لازدهار ثقافة «الكادر». أمام هذه الذهنيات يبدو أساتذة جامعة باتنة هواة، ويصبح رفعهم «الكادر» تحصيل حاصل.

والحل؟

بسيط ومعقّد في الوقت ذاته: يجب أن يقتنع كبار المسؤولين في الدولة بأن قيمتهم لا تُقاس بحجم ظهورهم في التلفزيون، وبأن مَن يشاهدهم الناس في التلفزيون أكثر لا يحبونهم بالضرورة أكثر.

عندما تقرر الجهات العليا المتحكمة في التلفزيون الجزائري والإعلام ككل افتتاح نشرات الأخبار بعناوين عن العائلات التي تموت اختناقا بغاز التدفئة المتسرب، بدلا من تغريدات رئيس الجمهورية، يختفي «الكادر» تلقائيا.

عندما تقدِّم نشرة الأخبار نبأ مصرع جزائريين (الأرقام مرعبة) في حادث سير مروّع في ولاية داخلية على تصريح لرئيس مجلس الأمة، صالح قوجيل، حول توجيهات رئيس الجمهورية القيّمة، سيختفي «الكادر» من قرارة نفسه.

عندما يُبث خبر نجاح طبيب جزائري في عملية جراحية معقّدة وإنقاذ روح كانت على شفا الموت قبل أخبار الوزراء والولاة ومسرحياتهم أمام الكاميرات، لن يبقَ لـ«الكادر» مكان.

يحتاج «الكادر» إلى أن يُجتثَّ بهدوء وذكاء من أذهان الناس فكرة أولا. إذا نجحنا في هذه المهمة، الباقي سهل. لكن مَن منهم يُعلِّق الجرس!

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here