دبلوماسية المبدأ لا المصلحة

دبلوماسية المبدأ لا المصلحة
دبلوماسية المبدأ لا المصلحة

لامية أورتيلان

أفريقيا برس – الجزائر. شكلت الدبلوماسية الجزائرية خلال الثورة التحريرية (1954-1962) نسيجا فريدا في نسيج حركات التحرر العالمية، حيث لم تكن مجرد أداة تكميلية للكفاح المسلح، بل كانت جبهة مستقلة حوّلت القضية الجزائرية من قضية محلية إلى قضية عالمية تمس ضمير الإنسانية.

لقد أدركت قيادة الثورة منذ انطلاق شرارتها الأولى أن المعركة لا تربح في الجبال والوديان فقط، بل أيضا في أروقة الأمم المتحدة وعواصم العالم المؤثرة، فأسست مكاتب ووفودا في القاهرة ونيويورك وداكار وغيرها، سعيا لانتزاع الشرعية الدولية من السلطة الاستعمارية الفرنسية وإثبات حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره.

لم تكن رؤية هذه الدبلوماسية محصورة في تحقيق الاستقلال الوطني فحسب، بل كانت متجذرة في إيمان راسخ بوحدة مصير شعوب العالم المستعمرة. ففي القارة الإفريقية، نظرت الجزائر إلى نضالها كجزء من معركة التحرر الشاملة للقارة، فنسجت تحالفات استراتيجية مع قادة التحرر مثل نكروما في غانا وتوري في غينيا، وكانت قضيتها حاضرة بقوة في مؤتمر باندونغ التأسيسي، الذي أرسى دعائم التضامن الأفروآسيوي.

هذا التوجه القاري لم يكن منفصلا عن البعد العربي، الذي تجلى في التزام صارخ بالقضية الفلسطينية، حيث ربطت الجزائر مصيرها بمصير فلسطين، معتبرة إياهما وجهين لنفس معركة التحرر من الاستعمار الاستيطاني.

بعد نيل الاستقلال في عام 1962 لم تهمل الجزائر هذا الإرث الدبلوماسي الثري، بل حوّلته إلى إطار عمل مؤسسي لدولة حديثة. فتحولت من دبلوماسية الثورة إلى دبلوماسية الدولة، حاملة نفس المبادئ ولكن بأدوات أكثر تعقيدا. في هذه المرحلة، برزت الجزائر كقائدة في حركة عدم الانحياز 1973/1974 وسعت لبناء تحالف دولي يركز على قضايا التنمية والعدالة، بعيدا عن صراعات الحرب الباردة، وأصبحت تلقب بـ”مكة الثوار”، حيث فتحت أبوابها ودعمت حركات التحرر في أنغولا وناميبيا وجنوب إفريقيا والموزمبيق، مجسدة بذلك مقولة “الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” على أرض الواقع.

وفي سياق الوفاء لمبدأ تقرير المصير، تبنّت الجزائر قضية الصحراء الغربية بثبات، داعمة حق شعبها في تقرير مصيره عبر الدعم السياسي واللوجستي لجبهة البوليساريو. كما برعت كوسيط نزيه يحظى باحترام الأطراف الدولية، وهو ما تجلى بوضوح في نجاحها في إدارة مفاوضات “اتفاقيات الجزائر” عام 1981، التي أنهت أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران، ما عزز مكانتها كفاعل قادر على إدارة الأزمات المعقدة.

أما في عالم اليوم، فتواصل الدبلوماسية الجزائرية السير على حبل مشدود بين التمسك بالثوابت التاريخية ومواكبة تحولات النظام الدولي المتسارعة. فلا تزال القضية الفلسطينية تشكل محورا أساسيا في خطابها السياسي، مع رفض قاطع لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل. لقد أسست الجزائر لعلاقة تكاملية بين تجربتها التحررية والنضال الفلسطيني، حيث استفادت حركة التحرير الفلسطينية من الدعم الدبلوماسي والسياسي والعسكري الجزائري منذ بداياتها. ففي المحافل الدولية، قدم الدبلوماسي الجزائري محمد الصديق بن يحيى عام 1974 أول مشروع قرار حول الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة، كما استضافت الجزائر عام 1988 الدورة الـ16 لقمة الجامعة العربية التي أعلنت خلالها منظمة التحرير الفلسطينية قيام دولة فلسطين، وكانت من أوائل الدول التي سارعت للاعتراف بهذه الدولة.

وبالمثل، تظل قضية الصحراء الغربية تمثل اختبارا حقيقيا لالتزامها بمبدأ تقرير المصير. وفي مواجهة تحديات الأمن والإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، برز دور الجزائر كحصن أمني إقليمي، ترفض التدخلات الخارجية وتؤكد على الحلول الأمنية والسياسية المحلية.

وعليه، يمكن القول إن الدبلوماسية الجزائرية، من ثورة التحرير إلى دولة ما بعد الاستقلال، تشكل نموذجا ملهما لدبلوماسية الدول الناشئة التي استطاعت تحويل مبادئها الأخلاقية إلى قوة ناعمة مؤثرة. إنها قصة تطور من دبلوماسية التحرر إلى دبلوماسية المسؤولية، تحمل في جعبتها إرثا ثوريا يجعلها صوتا لا يغيب عن الدفاع عن قيم السيادة والعدالة والتضامن بين الشعوب، في عالم يتطلع فيه الكثيرون إلى نماذج للاستقلالية والكرامة الوطنية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here