أفريقيا برس – الجزائر. يبدي أستاذ الطب والناشط السياسي الجزائري المعارض سيف الإسلام بن عطية تمسكه بضرورة الانتقال السياسي التدريجي، مع انخراط السلطة والمؤسسة العسكرية تحديدًا في مسار تفاوضي مع القوى الحية والتمثيلية للمجتمع، من أجل بلورة خارطة طريق توافقية للخروج من الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد.
وشدد رئيس مشروع التيار الوطني الجديد، في حديثه مع “أفريقيا برس”، على ضرورة توفر حزمة من إجراءات التهدئة قبل الشروع في أي حوار سياسي شامل، موضحًا أن إطلاق سراح معتقلي الرأي ورفع القيود عن الحريات السياسية والإعلامية يمثلان الخطوة الأولى لإضفاء أجواء الثقة وردم الهوة بين المعارضة والسلطة.
ويُعد المشروع السياسي المذكور أحد المبادرات التي أفرزها الحراك الشعبي، غير أن تعنت السلطة – بحسبه – لم يسمح بظهور كيانات أو مشاريع سياسية جديدة لاختبار قدرتها على تعبئة الشارع وتأطير مختلف الفاعلين، وهو ما أبقى الطبقة السياسية في حالة جمود غير مسبوقة.
ويرى بن عطية، الذي كان من أبرز وجوه الحراك الشعبي ويواصل نشاطه السياسي إلى اليوم، أن مخرج الأزمة يبدأ من الاعتراف بها أولًا، ثم من خلال جلوس جميع الفاعلين في السلطة السياسية والجيش والمعارضة إلى طاولة الحوار، لمناقشة حلول تضمن تماسك الجبهة الداخلية كجدار صد آمن أمام التحولات الإقليمية والدولية.
كنتم من الوجوه الحراكية القليلة التي بادرت بإطلاق كيان سياسي، لكن لا أفق للحزب في ظل الغلق السياسي السائد. هل يمكن أن توجزوا عن مشروعكم ومساره إلى غاية الآن؟
مشروعنا السياسي جاء كاستجابة طبيعية للحاجة الملحّة إلى تأطير مطالب الحراك الشعبي وتحويلها إلى فعل منظم يحمل رؤية للدولة والمجتمع. بعد حراك فبراير 2019، تبيّن أن الفراغ القيادي والسياسي كان أحد أهم أسباب عجز الحراك عن التأثير في مرحلة ما بعد بوتفليقة، فكانت القناعة أن بناء مشروع سياسي منظم هو المدخل الواقعي لصناعة التغيير.
انطلقت الفكرة من نقاشات بين عدد من الفاعلين من خلفيات فكرية ومدنية مختلفة، ثم تطورت إلى مبادرة تهدف إلى تجميع النخب المستقلة والشبابية في إطار سياسي جديد يوازن بين الواقعية والمبدئية.
مشروعنا يقوم على ثلاثة مرتكزات رئيسية:
– الانتقال الديمقراطي الآمن المبني على التوافق والحوار الوطني.
– إصلاح اقتصادي هيكلي يحرر الاقتصاد من التبعية للمحروقات ويشجع المبادرة الفردية والإنتاج الوطني.
– إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة من خلال العدالة والشفافية وإصلاح المؤسسات.
ورغم التضييق السياسي، فإننا نواصل العمل في إطار التحضير الفكري والتنظيمي، لأننا نؤمن أن العمل السياسي ليس رد فعل آنيًّا، بل مشروع وطني طويل النفس هدفه حماية الدولة من التصحر السياسي الذي يهدد وجودها قبل أن يهدد النظام القائم.
إلى أي مدى يمكن أن يكون مشروع سياسي كمشروعكم جزءًا من حل أزمة البلاد، بينما يرى ناشطون ومعارضون آخرون أن التغيير يجب أن يكون جذريًا وشاملًا؟
لكل رؤية مشروعها، ونحن نعتبر أن القطيعة الجذرية مع النظام ليست ممكنة عمليًا في ظل التوازنات الحالية، وأن الحل يكمن في التغيير التدريجي المنظّم. من حق جميع القوى السياسية أن تطرح أفكارها، لكن ما بعد الحراك كشف أن غياب القيادة السياسية الواضحة هو ما جعل البلاد تدخل في فراغ مقلق. فالتغيير يحتاج إلى مشروع دولة لا إلى مجرد رفض، وإلى قيادة سياسية تحمل تصورًا متكاملًا حول الانتقال الديمقراطي والتحولات الاقتصادية والاجتماعية. نحن نرى أن مسؤولية النخب اليوم هي صناعة قيادة سياسية جماعية يمكن أن تكون جهة حوار أو مفاوضات في المحطات القادمة، لأن استمرار الفراغ سيقود إلى تصحر سياسي أخطر على الدولة من بقاء النظام نفسه.
الآراء متباينة بشأن الحراك الجزائري. ما رأيكم، هل نجح أم فشل؟
النجاح أو الفشل الكلي في العمل السياسي مستحيل. الحراك نجح في إضعاف النظام السياسي عبر إدخاله في صراعات داخلية بين أذرعه، انتهت بقضايا فساد وسجن شخصيات نافذة مدنية وعسكرية، كما أنه عجّل بوصول قيادة سياسية ضعيفة وغير مؤهلة ما زالت تضعف النظام من الداخل دون أن تشعر. صحيح أن الاحتجاجات توقفت، لكن آثار الحراك ما زالت قائمة، وأبرز مؤشراتها العزوف الشامل عن العمليات الانتخابية وانعدام الثقة بين الدولة والمجتمع.
الكل يحمّل السلطة مسؤولية الغلق السياسي، لكن ألا تتحمل المعارضة جزءًا من المسؤولية أيضًا؟
نعم، هذا صحيح. المعارضة السياسية وفواعل الحراك تتحمل جزءًا من المسؤولية، لأنها لم تنجح في تقديم مشروع موحّد أو قيادة جماعية منذ 2019. بقيت المعارضة أسيرة الخطاب النقدي دون أن تتطور إلى قوة اقتراح وتنظيم سياسي مدني. لقد قدمنا عدة أفكار لتجميع المعارضة على أرضية مشتركة، لكن الانقسامات التاريخية والعجز عن تجديد الخطاب والأدوات جعلا المشهد المعارض يراوح مكانه. ومع ذلك، يبقى الأمل في جيل جديد من الفاعلين يتجاوز بقايا المعارضة القديمة التي ما زالت تفكر بعقلية الانفتاح المحدود في ثمانينيات القرن الماضي.
السلطة تتحدث عن “الجزائر الجديدة” والانتصارات، بينما تصف المعارضة الوضع بالسوداوي. ما قراءتكم للوضع القائم؟
القراءة المتوازنة تفرض علينا الاعتراف بأن الجزائر تعيش وضعًا معقدًا. خارجيًا، تراجعت مكانة الجزائر الدبلوماسية بشكل لافت. القضية الصحراوية تعيش انتكاسة بعد اعتراف معظم القوى الكبرى بمغربية الصحراء، ودول كانت تُحسب صديقة صارت تمارس ضغوطًا علنية، مثل فرنسا وإسبانيا وحتى بعض دول الخليج. كما بلغ التوتر مع دول الساحل مرحلة القطيعة، وتُتهم الجزائر اليوم بدعم الإرهاب في بعض الملفات، بينما الصراع المفتوح مع الإمارات لم يحقق أي مكسب واضح.
كل ذلك جعل الجزائر تدخل مرحلة من العزلة الإقليمية والدبلوماسية، زادها عمقًا فشلها في الانضمام إلى مجموعة البريكس، وهي صفعة دبلوماسية غير مسبوقة من دول كانت تُعتبر شريكة وصديقة. أما داخليًا، فالوضع الاقتصادي هش. السلطة تركز على أرقام الاقتصاد الكلي مثل نسب النمو وميزان المدفوعات، لكنها تغفل أربعة ملفات خطيرة: التضخم الحقيقي الذي يستنزف القدرة الشرائية للمواطن، الغلق العشوائي للاستيراد الذي تسبب في الندرة وارتفاع الأسعار، انخفاض قيمة الدينار بأكثر من 25% منذ 2019، واعتماد الحكومة على الاستدانة الداخلية لدعم الإنفاق العام.
كل ذلك يجعلنا أمام فقاعة أرقام مؤقتة تستند إلى ارتفاع أسعار النفط فقط، وهي قابلة للانفجار في أي لحظة مع أي تراجع في السوق الدولية.
أين يكمن حل الأزمة الجزائرية؟ هل في الانتخابات، أم في حراك جديد، أم في إصلاحات سياسية؟
لا حل للأزمة إلا عبر اعتراف النظام السياسي بوجود أزمة حقيقية، ثم الدخول في حوار وطني شامل يضم كل القوى الفاعلة وينتهي باتفاق تاريخي حول الانتقال الديمقراطي والإصلاحات الاقتصادية العميقة. ومن دون ذلك، سنبقى في دائرة إعادة إنتاج الأزمات. ويجب ألا نغفل أن المؤسسة العسكرية هي الفاعل الأكبر في النظام، وأي إصلاح سياسي حقيقي يجب أن يشركها في العملية.
الرئيس تبون طرح فكرة الحوار السياسي نهاية العام الحالي أو بداية العام القادم. ما تصوركم لنجاحه؟
أنا من المؤمنين بالحوار كقيمة إنسانية وسياسية لا يمكن رفضها، لكن الحوار لا ينجح إلا إذا توافرت له الشروط الموضوعية، وأبرزها: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، تحرير الإعلام ورفع القيود عن حرية التعبير والتنظيم، تحديد سقف زمني وجدول أعمال واضح، وجود ضمانات حقيقية لتنفيذ المخرجات، وإشراك ممثلين حقيقيين عن التيارات السياسية والمجتمع المدني، لا واجهات شكلية.
لدينا تصور شامل حول كيفية تنظيم هذا الحوار يمكن المساهمة به متى توفرت قنوات رسمية جدية للتحضير له، لأنه في اعتقادنا هو الحل الأسلم والأقل كلفة للخروج من الأزمة.
تعيش الجزائر في محيط إقليمي مضطرب وتوترات متعددة مع الجوار. كيف تقيمون ذلك، وما المقاربة الضرورية لتجاوزه؟
السبب الرئيسي هو ضعف الجبهة الداخلية سياسيًا واقتصاديًا. لا يمكن لدبلوماسية قوية أن تنبثق من داخل نظام مأزوم في الداخل. الحل هو تقوية الجبهة الداخلية من خلال إصلاحات سياسية حقيقية تمنح شرعية جديدة للنظام، واقتصاد منتج قادر على خلق الثروة. حينها فقط يمكن للمؤسسة العسكرية والدبلوماسية أن تؤديا دورهما الخارجي بثقة. كما يجب أن يتحول ملف السياسة الخارجية إلى قضية إجماع وطني، لا ساحة للتجاذب السياسي، لأن ضعف الموقف الداخلي هو ما شجع دول الجوار وحتى الشركاء على اختبار حدود الجزائر.
أبرمت الجزائر اتفاقًا عسكريًا مع تونس أثار جدلًا لدى بعض الأوساط. ما دلالاته برأيكم؟
أمن تونس من أمن الجزائر، وهذه قاعدة سياسية تشكل عقيدة جزائرية راسخة لا يختلف حولها أحد. الاتفاق لا يثير أي إشكال داخلي، بل يعكس تطور التعاون الأمني بين البلدين في ظرف دولي وإقليمي خطير. أما خارجيًا، فالمؤسسة العسكرية الجزائرية تؤكد أنها جيش قوي للدفاع عن الجزائر وحدودها، لا لشن الحروب.
اليوم، في ظل انهيار منظومة القانون الدولي وصعود “البلطجة الجيوسياسية”، من الطبيعي أن يمتد مفهوم الأمن القومي الجزائري إلى ما وراء الحدود، تجسيدًا للعقيدة الأمنية التاريخية للبلاد.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس





