في الذكرى الستين لاستقلال الجزائر سنوات الجمر والانتصار

14
في الذكرى الستين لاستقلال الجزائر سنوات الجمر والانتصار
في الذكرى الستين لاستقلال الجزائر سنوات الجمر والانتصار

أفريقيا برس – الجزائر. في الخامس من يوليو/تموز قبل ستين عاما حقق الشعب الجزائري انتصارا حاسما على المستعمر الفرنسي وأصبحت الجزائر بلدا حرا سيدا مستقلا بعد ليل طويل من ظلم الاستعمار الفرنسي استمر 132 سنة. من حق الشعب الجزائري والشعوب العربية قاطبة وكل أنصار الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية أن يحتفلوا بهذا الانتصار العظيم غالي الثمن الذي تحقق بعد سبع سنوات من المواجهات الدامية بعد أن كانت فرنسا تعتبر الجزائر جزءا منها تنهب خيراتها وتستعبد شعبها وتفرنس لغتها وتغّرب ثقافتها وتبعدها عن محيطها العربي والإسلامي. في هذه الذكرى العزيزة على قلوبنا جميعا نهنئ الشعب الجزائري العظيم على ذلك الانتصار. في هذا المقال سأركز على سنوات الثورة وأسباب انتصارها، وفي الجزء الثاني منه سأمر على بعض التحديات التي واجهتها جزائر ما بعد الاستقلال.

يختلف المؤرخون حول اللحظة التي قررت فيها قيادات العمل الوطني في الجزائر أن تغلق نافذة الحوار والمراهنة على إنجاز الاستقلال عن طريق المفاوضات والتصميم على إطلاق ثورة مسلحة تنجز بالقوة ما عجزت عنه السياسة. ولعل مذابح سطيف وقالمة التي وقعت في 8 مايو/ايار 1945 كانت الشرارة، فقد خرج الشعب الجزائري يطالب بالاستقلال الذي وعدته به فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كرد للجميل لآلاف المتطوعين من الجزائريين الذين شاركوا في حرب مدمرة لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وكان الرد أن استباح الجنرالات الفرنسيون المدينتين وضواحيهما مدة أسبوعين وأعملوا فيهما الرصاص الحي مخلفين ما بين 17,000 قتيل حسب الرواية الأمريكية و45,000 حسب الرواية الجزائرية. مذابح صطيف وقالمة كانت البداية. مسلسل المجازر لم يتوقف وأدى إلى سقوط نحو مليون ونصف الميلون عشية الاستقلال. إذن قررت الأحزاب في بداية الخمسينيات وبعد حوارات طويلة أن تضع السياسة جانبا وأن تمتشق السيف فهؤلاء لا يفهمون إلا «لغة الدبزة» كما يقول الجزائريون.

صدر بيان الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 الذي أعلن بدء الكفاح المسلح موضحا تماما لماذا بدأت الثورة المسلحة وما هي أهدافها ومادتها واستراتيجيتها. أعلن البيان أن «جبهة التحرير الوطنية» (FLN) قد «وضعت المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات… فهي ثورة موجهة فقط ضد الاستعمار الذي هو العدو الوحيد الأعمى الذي رفض أمام وسائل الكفاح السلمي أن يمنح الجزائر الحرية». وأقرت الجبهة بدون أي خلاف بين قياداتها الهدف الأسمى هو «الاستقلال الوطني وتحقيق قيام الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية مع احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني». أما الوسائل لتحقيق ذلك فقد عرضت الجبهة وهي تطلق الكفاح المسلح في كل البلاد غصن زيتون للمرة الأخيرة إذ أرسلت وثيقة للسلطات الفرنسية للمناقشة في جوهرها «مطالبة واضحة بالاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية ملغية بذلك كل الأقاويل والقرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضا فرنسية رغم اختلافات اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا والعادات للشعب الجزائري». ثم دعا بيان الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الشعب الجزائري بكافة أطيافه الانضمام للثورة «لإنقاذ بلدنا والعمل على أن نسترجع حريته. إن جبهة التحرير هي جبهتك وانتصارها هو انتصارك».

لقد وضعت الثورة الجزائرية قوانين الانتصار المسبقة والتي بدونها لا تنتصر الثورات: وحدة وطنية صلبة، قيادة واحدة موحدة، هدف واضح وسبيل الوصول إليه الكفاح المسلح. انطلقت الثورة التحريرية في كل البلاد ومن الحدود المغربية والتونسية واشترك فيها أبناء الريف والمدن والبوادي وتعاملت فرنسا مع الثورة بالبطش والدمار والقصف الجوي والإعدامات الميدانية. وكلما زاد البطش الفرنسي بهدف إخماد الثورة حصل العكس وزاد اللهيب أوارا. وكان قادة الثورة في مقدمة الصفوف يسقطون شهداء أو يقبعون في السجون.

أذكر، وأنا طفل صغير، حفلة أقيمت في مدرسة قريتنا قرب القدس لجمع التبرعات للجزائر، فرأيت النساء يخلعن حليهن ويتبرعن به للثورة الجزائرية. ولا يمكن أن أنسى عندما وقف رجل كبير في السن وقال أمام الحضور: «والله لا أملك إلا هذا القمباز، وخلعه وتبرع به أمام تصفيق الحاضرين». وما كان يجري في فلسطين كان يجري في كل بلاد العرب في ظل زعيم الأمة آنذاك جمال عبد الناصر الملتزم بالعروبة وبدحر الاستعمار والذي خرج منتصرا في معركة العدوان الثلاثي في السويس على ثالوث الشر بريطانيا وفرنسا وكيان الإرهاب الصهيوني.

الشعوب العربية تجمع التبرعات وترسل المتطوعين والمغرب وتونس تستضيفان وحدات جيش التحرير ومصر تمد بالسلاح ومنابر الإعلام، وممثلو الدول العربية في الأمم المتحدة يدافعون عن الثورة ويدينون المذابح التي يرتكبها المستعمر الفرنسي. وخطب أحمد الشقيري، الفلسطيني الذي يحمل الجنسية السورية ويمثل السعودية، خلدها التاريخ وحفظها أبناء الشعب الجزائري الوفيّ.

الحدود المشتركة والانتماء الحضاري والتقارب النفسي والعرقي بين بلدان المغرب العربي الثلاثة، والاكتواء من نيران نفس المستعمر جعل الشعبين المغربي والتونسي في طليعة الداعمين للثورة الجزائرية وخاصة بعد نيل الاستقلال في البلدين عام 1956 حيث أصبح البلدان ممرا للمساعدات المادية والعسكرية القادمة من المشرق. لقد لعب الملك محمد الخامس دورا رئيسا في دعم الثورة الجزائرية فقد عانى شخصيا من ظلم فرنسا عندما خلعوه عن العرش عام 1953. وبعد الاستقلال وعودته للبلاد عام 1956 أعلن أن استقلال المغرب يظل منقوصا إذا لم تستقل الجزائر وقال: «إننا لا نستطيع الاستمرار في احترازنا الحالي إن لم يحل المشكل الجزائري ويعترف للشعب الجزائري بحريته». وأعلن أمام نائب الحكومة المؤقتة عبد الكريم بلقاسم في زيارة للمغرب عام 1959 أن المغرب يساند مساندة مطلقة حرب التحرير الجزائرية والقضية الجزائرية العادلة». وأكد وزير الدفاع المغربي بعد واحدة من الغارات أن القوات المغربية ستتصدى لأي عدوان على أراضيها «وسيتعاون الجيش المغربي مع جيش التحرير الجزائري لصد أي عدوان فرنسي».

الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بعد اعتداء فرنسا على بلدة ساقية سيدي يوسف عام 1958 واختلاط دماء أكثر من 70 من الشهداء التونسيين والجزائريين قال «إن الحرية مسبقة على الخبز. إن مد الأنابيب البترولية من تونس سوف تستفيد منه البلاد التونسية بما لا يقل عن مليار فرنك فرنسي سنويا، ولكن نعتقد أن تونس تستطيع أن تضحي بهذا المليار في سبيل انتصار الجزائر». وأكد بورقيبة أنه لا يستطيع منع التونسيين من الكفاح إلى جانب إخوانهم الجزائريين.

العمل السياسي والدبلوماسي لممثلي الجبهة شمل المشرق العربي كله انطلاقا من القاهرة، ومن راديو صوت العرب قرئ بيان الأول من نوفمبر. لقد بثت ثورة 1952 الروح المعنوية في الشعوب العربية وأولها الشعب الجزائري وخاصة بعد تأميم قناة السويس وتعرض مصر للعدون الثلاثي. كان قادة الثورة يدركون أن فرنسا دخلت الحرب لتعاقب عبد الناصر على دعمه لثوار الجزائر. وعبرت جبهة التحرير عن هذا الموقف في بيان في الأول من يناير/كانون الثاني 1957 حيث جاء في البيان «أن الشعب الجزائري لن ينسى أن مصر تعرضت لعدوان شنيع كانت فيه ضحية لتأييدها للشعب الجزائري المناضل. ولا ينسى الشعب الجزائري أن انتصار مصر في معركة بور سعيد التاريخية ليس إلا انتصارا لواجهة من واجهات القتال العديدة التي تجري في الجزائر. إن الشعب الجزائري وهو منهمك في معركته التحريرية الكبرى ليبعث إلى الشعب المصري الشقيق وبطله الخالد جمال عبد الناصر بأصدق عواطف الأخوة والتضامن». عبد الناصر نفسه كان يشرف أو يشارك في النشاطات الداعمة للثورة الجزائرية والتي تشمل جمع التبرعات والمهرجانات الجماهيرية والحملات الإعلامية ثم تطورت للتدريب والتسليح. وفي الذكرى السادسة للثورة الجزائرية أقيم مهرجان كبير حضره ناصر وألقى فيه كلمة قال فيها «إننا ونحن ننظر لشعب الجزائر وهو يستقبل العام السابع من ثورته نحمد الله الذي مكن هذا الشعب أن يصمد ويثابر ويجابه ثمنمئة جندي من قوات فرنسا بقوته وأسلحته القليلة ثم يدوّخ فرنسا وجيوشها وأسلحة الأطلسي، ويدوخ الدول التي تدعي أنها تمثل العالم الحر».

نشاطات عديدة مماثلة في سوريا والعراق والأردن ولبنان وليبيا والسعودية والكويت لا يمكن تغطيتها في عجالة. كان شلال الدماء يفيض على الأرض والصمود الأسطوري أصبح مضرب الأمثال والنموذج الأرقى في ثورات القرن العشرين إلى أن رفع ديغول راية الاستسلام وأعلن «الجزائر للجزائريين» وبدأ بعدها التحضير لاحتفالات الاستقلال رغم مشاغبات المستوطنين أو «الأقدام السوداء».

قيادة صلبة واعية تعرف ماذا تريد، وشعب يلتف حول قيادته وعلى استعداد أن يضحي بكل شيء من أجل استرداد سيادته وحريته وكرامته، ودول الجوار تدعم بالمال والسلاح والمتطوعين وأمة بقيادة زعيم وطني مخلص تقف خلف الثورة وتمدها بالمال والسلاح، ورأي عام مساند يتحول تدريجيا إلى أن يصبح استقلال الجزائر أهم قضايا الأمم المتحدة في الأعوام 1960-1962. تلك شروط الانتصار الناجز. وللحديث بقية.

عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز في ولاية نيوجرسي

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here