كمال راشدي: التنظيمات الإرهابية أداة بيد القوى الفاعلة في الساحل الإفريقي

3
كمال راشدي: التنظيمات الإرهابية أداة بيد القوى الفاعلة في الساحل الإفريقي
كمال راشدي: التنظيمات الإرهابية أداة بيد القوى الفاعلة في الساحل الإفريقي

أفريقيا برس – الجزائر. استبعد أستاذ العلوم السياسية والقانونية، والمحلل السياسي كمال راشدي، أن تأخذ حادثة الطائرة المسيرة المالية التي أسقطها الجيش الجزائري مطلع الشهر الجاري، طابعا تدويليا كون البلدان اكتفيا بتقديم احاطة فقط إلى مجلس الأمن، مما يوحي الى أن المسألة لم ترقى في مواقف البلدين الى مستوى الاعتداء المسلح.

وأكد في حوار مع “أفريقيا برس”، بأن التحول العميق في موقف النخب العسكرية الحاكمة في دول الساحل الثلاث (مالي، النيجر وبوركينا فاسو)، تجاه المكون الأزوادي ببعده التاريخي والاجتماعي، من شريك سياسي الى تنظيم إرهابي، بعثر الأوراق في المنطقة، وفتحها على التوتر وعدم الاستقرار.

ولفت الى أن دخول قوى إقليمية، على خط الأزمة، انطوى على نوايا ولعبة نفوذ، يحاول أصحابها إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية، وتجاوز الأدوار التقليدية للجزائر، وهو تحول يحتم على دوائر القرار ادراك الخيوط المتشابكة والمصالح المتقاطعة، لأن المسألة لا تتعلق بالوضع في المنطقة، بل بالأمن القومي والاستراتيجي للبلاد.

أودعت مالي شكوى لدى الهيئات الأممية المختصة، غداة اسقاط قوات الدفاع الجوي الجزائرية لطائرة مسيرة اخترقت الأجواء الإقليمية، كما قدمت الجزائر احاطة حول الموضوع، برأيكم ماهي المآلات والترتيبات الناظمة في القانون الدولي لمثل هذه الحالات.

لقد اتضح – حسب مصادر من مجلس الأمن – أن حكومة مالي قدمت مراسلة أو إحاطة إلى مجلس الأمن مثل ما قدمته الجزائر، تتضمن إدانة لما اعتبرته عملا عدائيا من طرف الجزائر، المتمثل في عملية إسقاط الطائرة المسيرة، دون أن ترقى هذه المراسلة أو الإحاطة إلى مستوى الشكوى الرسمية وتكييفها كذلك طبقا لقواعد القانون الدولي.

إذ كلا البلدين لم يطلبا عقد اجتماع لمجلس الأمن للنظر في القضية محل النزاع بينهما والمتعلقة بإسقاط الدفاع الجوي الجزائري لطائرة مسيرة استطلاعية مسلحة تابعة لحكومة مالي، انتهكت المجال الجوي الجزائري، بعد رصدها قرب مدينة تينزواتين الحدودية مع مالي.

بناء على ذلك فإن الموضوع لا يستدعي – حسب اعتقادنا- اتخاذ إجراءات أو ترتيبات من طرف مجلس الأمن، لأن حسب أحكام ميثاق الأمم المتحدة فإن الدول تتوجه إلى مجلس الأمن عندما يكون هناك تهديد للسلم والأمن الدوليين، والمطالبة بوضع الترتيبات المناسبة لمواجهة هذا التهديد طبقا لأحكام القانون الدولي في هذا الشأن، و تخطر في نفس الوقت المجلس باتخاذها للترتيبات الردعية دفاعا عن سيادتها.

ومع ذلك يترك المجال مفتوح لمجلس الأمن برئاسة فرنسا حاليا للنظر في القضية من عدمها.

ساهمت حادثة الطائرة المسيرة في تطور متسارع للأزمة القائمة بين الجزائر وبين دولة مالي، ومعها دول الساحل، هل يعود ذلك الى الطبيعة ” المزاجية” للسلطة الحاكمة في مالي، أم هو نتيجة تراكمات السنوات الأخيرة بين الطرفين؟

إن تدهور العلاقات فيما بين الجزائر ومالي ليس وليد حادثة إسقاط الطائرة المسيرة، وإن كانت تعد هذه الحادثة تعبر عن منتهى التدهور في العلاقات، وإنما جاء نتيجة تشابك الخلافات وتباين المواقف الإستراتيجية والتوترات الدبلوماسية بين البلدين وإعادة تشكيل التحالفات الجيوسياسية في منطقة الساحل بعد مجيء السلطات العسكرية إلى الحكم في مالي.

فإذا كان الإنقلاب العسكري الذي حدث في مالي في سنة 2021 يشكل منعطفا حاسما في تدهور العلاقات بين البلدين، فإن نقطة التحول الحقيقية في هذا التدهور تمثلت في قرار السلطات العسكرية المالية الانسحاب وإنهاء العمل بصفة آنية باتفاق السلم والمصالحة في مالي المبرم برعاية الجزائر وتحت مظلة الأمم المتحدة ودعم المجتمع الدولي سنة 2015..والذي كان يشكل إطارا رسميا أساسيا لاستقرار منطقة شمال مالي بصفة خاصة ودولة مالي عموما، لأنه أعد وفق مقاربة شاملة ضمت جميع الأطراف الفاعلة في مالي بما فيها حركة الأزواد.

بالإضافة إلى ذلك لم تتوان السلطات المالية في اتهام الجزائر لأغراض سياسية وطنية وخلق عدو وهمي جديد بعدما تم التخلص من العدو الأول (فرنسا وقوات الأمم المتحدة لحفظ الأمن في شمال مالي)، بمساندة ودعم “الإرهاب” في شمال مالي المتمثل في حركة الأزواد، وبالتدخل في شؤونها الداخلية، دون أساس من الصحة.

هذه الاتهامات لا تعبر فقط عن أزمة راهنة، وإنما تكشف عن تحول عميق في موازين القوى وتوجهات السياسات الخارجية لهذه الدول، في ظل تخلي هذه الدول عن العمل والتنسيق في الأطر التقليدية للعمل السياسي والدبلوماسي كمجلس التعاون الاقتصادي لدول غرب إفريقيا والاتحاد الإفريقي.

هذا جاء نتيجة تغيير السلطات العسكرية إستراتيجية التعامل مع حركة الأزواد، وتحول أطراف السلام في الاتفاق إلى أطراف تتهم بالإرهاب. فبعد أن كانت هذه الحركة طرفا فاعلا وأساسيا معترفا به في تحقيق السلم والمصالحة الوطنية في مالي التي أقرها اتفاق الجزائر، أعيد تكييفها من طرف السلطات العسكرية على أنها حركة “إرهابية” تزعزع استقرار وأمن البلد.

اعتبرت الجزائر الانسحاب من الاتفاق وإنهاء العمل به وتبني الخيار العسكري لحل مشكلة الأزواد وشمال مالي بمثابة إعادة نظر خطيرة لاستقرار هذه المنطقة ومنطقة الساحل برمتها، وعبرت عن مخاوفها وانشغالها على أمن حدودها، خاصة بعد تحالف السلطات العسكرية في مالي مع مجموعة “فاغنر” الروسية وقيام هذه الأخيرة بنشاطات مسلحة بالقرب من حدودها. إلى جانب تزايد مخاوفها من ازدياد وجود قوى أجنبية من الناتو والبريكس وأوروبا ودول أخرى من آسيا (تركيا والإمارات)، تتضارب وتتصارع فيما بينها بالوكالة في المنطقة وتتقاسم المصالح، مما جعل منها منطقة اللاقانون أو منطقة خارجة عن القانون لزرع الفوضى: إرهاب، هجرة غير شرعية، تجارة المخدرات، الجريمة المنظمة…إلخ.

بات المكون الأزوادي ببعده القومي والسياسي يشكل ورقة هامة في معادلة الساحل، ما هي مآلات القضية في ظل تصنيفهم من طرف حكومات المنطقة كتنظيم “إرهابي”، وماهي برأيكم الحلول المثالية للملف ؟

تأسست الحركة الوطنية للأزواد كإطار سياسي يلم شمل الأزواديين ويسعى لتحقيق للسلام ويعمل وفق نهج القانون واستعمال الدبلوماسية والالتزام بالعمل الجماعي لتجسيد المطالب الوطنية.

تهدف الحركة إلى استعادة الحقوق التاريخية للشعب الآزوادي التي تعرضت للانتهاك والدفاع عنها بالمقاومة المشروعة، ورفض كل أشكال العنف وإدانة الإرهاب ودعوة مالي للاعتراف بحقوق الأزواد والحوار وحل النزاعات سلميا.

هذا ما تحقق تقريبا للحركة وللأزواديين بموجب اتفاق السلم والمصالحة المبرم في الجزائر في سنة 2015، الذي اعترف صراحة بتعدد المكونات القومية البنيوية في مالي وفي مقدمتها مكون الأزواد، و إقامة حكم لامركزي قوي وإعداد برنامج للتنمية الاقتصادية طموح.

هذا ما جعل فعلا المكون الأزوادي ببعده السياسي والقومي يشكل فاعلا أساسيا في تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة شمال مالي الحدودية مع الجزائر ومنطقة الساحل برمتها وتحقيق التنمية الاقتصادية في شمال مالي مابين سنتي 2015 و 2024.

وهنا يطرح السؤال: كيف يمكن تقبل هذا التحول في استراتيجية السلطات العسكرية الجديدة في التعامل مع المكون الأزوادي والانقلاب على هذه المكاسب التي تحققت تحت مظلة الأمم المتحدة بالأمس وفي ظل سكوتها اليوم عن تراجع هذه السلطات في الاعتراف بالحقوق المشروعة للأزواد وإعادة تكييفها وتصنيفها كحركة “إرهابية”، ليس فقط من طرف مالي وإنما من طرف ما أصبح يعرف بتحالف دول الساحل (مالي، النيجر وبوركينا فاسو).

وعليه لا يستبعد أن يتسبب هذا التراجع في الاعتراف بالحقوق المشروعة للأزواد وهذا التصنيف الإرهابي للحركة وإصرار السلطات العسكرية في مالي على التصعيد، في دفع الحركة إلى التطرف في تعاملها مع هذه المعطية الجديدة، وربما السعي إلى التحالف مع الحركات المسلحة المصنفة بالإرهاب الموجودة في منطقة الساحل (القاعدة وداعش) مثلما حدث قبل هذا التاريخ، للمطالبة بالحقوق المشروعة للأزواد، خاصة في ظل عدم اعتراف الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي بها كحركة تحرير وطنية وحق الأزواد في تقرير المصير.

نتيجة للوضع الجديد في منطقة الساحل، بادر مجلس تعاون دول غرب إفريقيا إلى الدعوة إلى عدم التصعيد والعودة إلى الحوار لحل مشاكل منطقة الساحل بما فيها مسألة الأزواد للحفاظ على أمن وسلامة المنطقة إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الكثير يستغرب ويتأسف لسكوت الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة عن هذه الأحداث الجارية في منطقة الساحل التي قد تكون مصدر تهديد لسلم وأمن منطقة الساحل.

أجمع أعضاء تحالف دول الساحل على اتخاذ موقف سياسي وديبلوماسي مشترك ضد الجزائر، هل ترون ذلك نابع من إرادة مشتركة للنخب العسكرية الحاكمة، أم هو موقف عرضي لا يمكنه الصمود أمام ضغط المصالح، كما هو الشأن بالنسبة لدولة النيجر المرتبطة بمشروع استراتيجي مع الجزائر (خط الغاز الأفريقي).؟

أعتقد أن الموقف السياسي والدبلوماسي المشترك لقادة تحالف دول الساحل باستدعاء سفراء بلدانهم المعتمدين في الجزائر للمشاورة وغلق المجال الجوي أمام الملاحة الجوية الجزائرية بالنسبة لمالي، لا ينبع حقيقة من إرادة مشتركة للسلطات العسكرية الحاكمة فيها، وإنما هو موقف عرضي، يتميز بنوع من التهور، أملته أحداث وظروف سياسية داخلية ظرفية.

إن هذا الموقف المشترك لا يمكنه أن يصمد لفترة طويلة أمام ما تتقاسمه هذه الدول من مصالح استراتيجية سياسية واقتصادية وأمنية قوية مع الجزائر، وأيضا بحكم الجوار والتاريخ والنضال المشترك من أجل التحرر ومن أجل التنمية في المنطقة وفي إفريقيا.

فإذا لم تكن لدولة بوركينا فاسو حقيقة مصالح مشتركة قوية مع الجزائر، فإن الحال غير ذلك بالنسبة للنيجر، فهذه الدولة لها مصالح إستراتيجية مع الجزائر، فإلى جانب استفادتها من مشروع خط الغاز الإفريقي (نيجيريا- النيجر- الجزائر- أوروبا)، فإنها تستفيد من مشاريع استثمار مشتركة مع الجزائر من خلال شروع شركة سوناطراك الجزائرية في البحث والتنقيب عن البترول في هذا البلد. أما بالنسبة لدولة مالي فتربطها بالجزائر مصالح مشتركة هامة، خاصة في مجال التعاون والتنسيق الأمني وحماية الحدود المشتركة التي تفوق 1300 كيلومتر.

يعتقد محللون وخبراء جزائريون أن هذه الازمة لم تكن لتحدث لولا وجود قوى إقليمية تحرض على تأليب حكومات المنطقة ضد الجزائر في إطار لعبة مصالح ونفوذ، الى أي مدى يعتبر الطرح وجيها ويمكن الاعتداد به في تحليل الأزمة.؟

إن الإجابة على هذا السؤال تكون من خلال الإجابة على السؤال التالي: من المستفيد من تدهور الأوضاع في منطقة الساحل؟ لا يخفى على الباحثين والخبراء في الشأن الإفريقي عامة وشأن منطقة الساحل خاصة، بأنها أضحت منطقة تتصارع فيها قوى أجنبية تتكون من دول ومن مجموعات ضغط تابعة لحلف الناتو ومجموعة البريكس وأوروبا ودول من آسيا، تتصارع فيما بينها بالوكالة، باستغلال سلطات دول المنطقة لضرب الجزائر، وتوظيف الجماعات المسلحة الإرهابية كالقاعدة والدولة الإسلامية المتوطنة في المنطقة لزرع الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي تلقي بنفوذها في المنطقة، نتيجة لما تتقاسمه هذه القوى من مصالح إستراتيجية اقتصادية (الثروات الطبيعية الغنية) وسياسية وأمنية وعسكرية في منطقة الساحل كلها.

كما لا أكشف جديدا إذا قلت بأن هناك فاعل جديد المتمثل في المغرب الذي استغل ظروف الأزمة الراهنة القائمة بين الجزائر ومالي، وسعى ويسعى إلى كسب ود دول الساحل على حساب الجزائر. إذ نلاحظ أن خطابه السياسي والدبلوماسي على لسان وزير خارجيته كله مبني على توجيه النقد لسياسة الجزائر في المنطقة، وتلفيق التهم لها بدعم ومساندة الإرهاب، هي نفس التهم التي تسوقها اليوم السلطات العسكرية.

وما الدعوة التي وجهت لوزراء خارجية دول الساحل الثلاثة، بالإضافة إلى دولة تشاد واجتماعهم المنعقد في مراكش بتاريخ 19 أفريل 2025 لبحث المبادرة التي أطلقها ملك المغرب لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي “من أجل أفريقيا مزدهرة”، و بالتالي تمكينها من استقبال وارداتها وإرسال صادراتها من الموانئ المغربية بدلا من الموانئ الجزائرية حاليا، إلا دليل على النفوذ الذي يريد المغرب إلقائه في منطقة الساحل.

أيضا تجدر الإشارة إلى اقتراح المغرب لمالي وإستعداده لاستقبال قوات مالية للتدريب على مكافحة الإرهاب، في حين أن الجزائر لها تجربة رائدة في هذا الميدان سواء داخليا أثناء فترة الإرهاب أو خارجيا في إطار لجنة هيئة اركان الجيش المشتركة لتنسيق الجهود لمكافحة الإرهاب (CEMOC)، ومقرها في الجزائر، التي تضم الجزائر وموريتانيا ودول الساحل وانسحبت منها دولة مالي بعد حادثة الطائرة المسيرة.

أخيرا وبعيدا عن نظرية المؤامرة، يتبين لنا بأن كل هذه الأعمال والمناورات القصد منها دفع دول الساحل للإستغناء عن الجزائر اقتصاديا وأمنيا وعسكريا لفائدة المغرب، والعمل على زعزعة الاستقرار والأمن في المناطق الحدودية لجنوب الجزائر، كما تحاول زعزعته بالتحالف مع الكيان الإسرائيلي على الحدود الغربية للجزائر.

ما هي في رأيكم الكلفة الجيوسياسية التي تترتب عن هذه الأزمة في المنظور القريب على الأقل، وما هي السيناريوهات المحتملة لها على ضوء التطورات الحالية؟

أعتقد إن الأزمة الراهنة والتوترات الحالية المترتبة عنها بين الجزائر ومالي وامتدادا الى كل من بوركينا فاسو والنيجر.. الكل خاسر فيها، لأنه من شأنها أن تقوض حالة الاستقرار والأمن والتنمية بالمنطقة كلها، نتيجة لكل ما سبق ذكره عن المنطقة من مخاطر وتوترات وتدخلات وتحالفات جيوسياسية، مصدر تهديد فعلي لكل هذه الدول بما فيها الجزائر.

فبالنسبة للجزائر، صاحبة التاريخ الطويل في العمل الدبلوماسي الإقليمي والدولي، تظهر وكأنها تواجه اختبارا عسيرا لفرض نفوذها التقليدي في منطقة تتغير معالمها بسرعة. وتعد خطوات التصعيد من طرف تحالف دول الساحل الثلاثة، كالإستدعاءات الدبلوماسية للسفراء للمشاورة وإغلاق المجال الجوي، والانسحاب من لجنة هيئة أركان الجيش المشتركة بالنسبة لمالي، إشارات واضحة على انحدار غير مسبوق في مسار العلاقات بين هذه الأطراف.

إن العودة إلى المسار السياسي في شمال مالي ضروري جدا للحد من تصعيد الأزمة، وذلك بتفعيل العمل الدبلوماسي والحوار بين أطراف الأزمة، ورغم الخلافات في المواقف والرؤى تجاه القضايا المطروحة، خدمة للمصالح المشتركة القوية بينها، وبالتالي استبعاد أي احتمال للمواجهة بين أطراف الأزمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تفويت الفرصة على القوى الأجنبية والجماعات المسلحة والحركات الإرهابية الفاعلة في المنطقة حتى لا تقوى شوكتها أكثر في في زرع الفوضى والتوتر في المنطقة وعرقلة جهود التنمية والتطور في المنطقة.

كما أن التعاون بين الجزائر ومالي حتمية تمكنهما من تأمين حدودهما والتحكم في تدفقات الهجرة وانتقال البدو الرحل بين البلدين، وحركة انتقال السلع والأشخاص، ومواجهة مشتركة للتحديات التي تقف أمامهما مثل الإرهاب، التهريب، والاتجار غير المشروع بالبشر وبالمخدرات وبالعملات والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، والرهانات الواجب عليهما التعامل معها بجهود مشتركة مثل الأمن الطاقوي و التنمية الاقتصادية…وغيرها من القضايا المشتركة. وذلك بداية بإعادة إحياء الاتفاق الأمني الذي أبرم بين البلدين في سنة 2005 المتعلق بالتعاون والتنسيق الأمنيين.

يتحدث البعض عن امكانية قيام بعض الدول بوساطة لحل الأزمة بين الجزائر وبين مالي ودول الساحل، ويجري تقديم اسمي روسيا وموريتانيا بهذا الخصوص، برأيكم هل يملك البلدان مؤهلات الوساطة، وهل تهيأت الظروف المناسبة لوساطة كهذه؟

من المفترض -حسب اعتقادي واعتقاد الكثير من المحللين- أن الأولوية بمبادرة الوساطة تعود للاتحاد الإفريقي بحكم مواقفه غير المتورطة من الأحداث الداخلية لدول الساحل والانقلابات العسكرية التي حصلت فيها في السنوات الماضية، وجاءت بالأنظمة العسكرية الحاكمة حاليا، وبحكم أيضا أن الجزائر من الدول المؤسسة للاتحاد، خاصة وأن رئيس غانا وهو الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي عبر عن نيته في الوساطة لفض الأزمة في منطقة الساحل. ثم يمكن كذلك لجنوب إفريقيا أن تقوم بهذا الدور بحكم علاقاتها الطيبة مع كل أطراف الأزمة دون إستثناء.

أما بالنسبة لموريتانيا لا يمكن التقليل من قدرتها على لعب دور الوسيط بين الجزائر وبين دول تحالف الساحل. إلا أن التوتر الدبلوماسي الحادث بينها وبين مالي نتيجة للعمليات العسكرية التي تقوم بها مالي بانتهاك الحدود الموريتانية بمبرر مكافحة الإرهاب، وتسببت في قتل مواطنين موريتانيين، قد يكون عائقا أمام قيامها بدور الوساطة.

فيما يتعلق بروسيا أظن أنها تستطيع أن تقوم بدور الوساطة بين أطراف الأزمة إذا كان بإمكانها التحكم في مجموعة “فاغنر” التابعة لها المتحالفة مع السلطات العسكرية في مالي والحد من النشاطات المسلحة التي تقوم بها بالقرب من الحدود الجزائرية، وانعكاساتها على أمن الحدود الجزائرية واستقرار المنطقة.

من جهة أخرى تجدر الإشارة إلى أن ظروف إجراء وساطة لم تظهر ملامحها بعد في ظل سياسة التصعيد التي تنتهجها السلطات العسكرية في مالي.

الأزمة قلصت من حظوظ الدور التقليدي الجزائري في المنطقة، ووضعت مصالحها الاستراتيجية تحت دائرة الاستهداف، ماهي برأيكم المقاربة الناجعة لاستعادة الجزائر لدورها الطبيعي في المنطقة؟

فعلا شهدت الجزائر تراجعا ملحوظا في نفوذها بمنطقة الساحل نتيجة التحولات الجيوسياسية العميقة الحاصلة في المنطقة، نتيجة صعود فاعلين جدد مثل روسيا الرسمية وروسيا عبر مجموعة فاغنر، وتركيا المزودة لتحالف دول الساحل بالطائرات المسيرة، والإمارات العربية المتحدة الداعمة للمجموعات العسكرية.

يلاحظ أن الجزائر التي اعتمدت تاريخيا على الوساطة والدبلوماسية كأدوات رئيسية في التعامل مع القضايا الدولية قصد المحافظة على السلم والاستقرار طبقا لميثاق الأمم المتحدة، لم تتمكن، من مجاراة هذا التوجه العسكري المتصاعد في منطقة الساحل، خاصةً مع تحالف دول الساحل (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) الذي تخلى عن استراتيجيات التفاوض لصالح المقاربة الأمنية العسكرية الصارمة.

وأصبحت اتفاقية الجزائر للسلم والمصالحة المبرمة عام 2015، التي كانت تعتبر إنجازا دبلوماسيا، دون قيمة بعد إنسحاب مالي منها وإنهاء العمل بها، ولجوئها الى الحل العسكري في مواجهة حركة الأزواد وحقوقها المشروعة، ورفضهم أي تدخل خارجي، بما في ذلك الوساطة الجزائرية، التي أصبحت تعد “تدخلا في الشؤون الداخلية” لدولة مالي، تم التنديد به من طرف هذه السلطات.

يبدو هذا التراجع واضحا إذا نظرنا إلى السكوت غير المبرر الملاحظ على الاتحاد الإفريقي بالدرجة الأولى وعدم مبادرته بأي جهود أو مساعي دبلوماسية لاحتواء الأزمة والسعي لإيجاد حلول لها. كما يبدو هذا التراجع جليا إذا لاحظنا أن الكل تجاهل وتناسى مسح الجزائر ديون الكثير من الدول الإفريقية بما فيها دولة مالي، بمبادرة من الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. كما أن الكل تناسى تخصيص الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مليار دولار لتمويل مشاريع تنموية في الدول الأفريقية.

كل هذا لم يشفع للجزائر في أزمتها مع مالي بصفة خاصة ومع باقي دول منطقة الساحل بصفة عامة، بل أكثر من ذلك أصبحت مصالحها الإستراتيجية من استقرار وأمن مستهدفة من قبل الأطراف الجديدة الفاعلة في هذه المنطقة وتحالفاتها الجيوسياسية، كما سبق توضيحه.

لذا أعتقد أنه حان الوقت بالنسبة للجزائر أن تستعيد دورها الإفريقي الرائد باستخدام مقاربة شاملة في علاقاتها الدولية تجمع بين الدبلوماسية الاستباقية وبين الصرامة في المواقف، خاصة اتجاه القضايا التي تتعلق بمصالحها الإستراتيجية، وبين صيغة تعامل رابح- رابح.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here