لمصلحة من يتم الانقضاض على الحريات النقابية في الجزائر؟

5
لمصلحة من يتم الانقضاض على الحريات النقابية في الجزائر؟
لمصلحة من يتم الانقضاض على الحريات النقابية في الجزائر؟

ناصر جابي

أفريقيا برس – الجزائر. الإجابة على هذا السؤال قد تبدو بديهية لدى الكثير من الجزائريين، باعتبار الحريات النقابية جزءا من الكل. بعد الحملة الشرسة التي شُنت على مجمل الحريات السياسية والإعلامية، وحريات التنظيم الأخرى التي مست الحزب السياسي والجمعية، على الرغم من أن هناك الكثير ما يميز مسألة الحريات النقابية في بلد مثل الجزائر، يملك تجربة تاريخية نقابية مهمة، كان لها تأثير في الدولة في الشكل والمحتوى الذي ظهرت به بعد الاستقلال. باختصار المس بالحريات النقابية هو مس مباشر بالمحتوى الاجتماعي، الذي عرفت به الدولة الوطنية بعد الاستقلال في الجزائر، الذي سيكون من الصعب المس به من دون تداعيات خطيرة على علاقة الجزائريين بدولتهم الوطنية التي عاشوا في كنفها منذ استقلال البلاد.

وهو ما جعل الحكومة ـ في الحقيقة ليست الحكومة التي لا تعدو أن تكون إلا واجهة، بل الرئاسة كمركز قرار فعلي وجزء مهم من النظام السياسي القابض مقاليد السلطة هذه الأيام ـ تعيش حالة تخبط وهي تتعامل مع هذا الملف الحساس، الذي طالب مجلس الوزراء أكثر من قراءة له قبل الموافقة عليه أخيرا وتمريره إلى المجلس الشعبي الوطني لمناقشته والمصادقة عليه لاحقا. في غياب شبه كلي لأي نقاش اجتماعي مع النقابات العمالية وأرباب العمل الذين يهمهم أمر هذا التعديل لقانونين مهمين يُقننان حق ممارسة العمل النقابي وحق ممارسة الإضراب اللذين كانا يضبطان هذه الأمر منذ 1990 تاريخ إصدار القانونيين من قبل حكومة حمروش الإصلاحية، في جو الانفتاح الذي كان سائدا في بداية مرحلة التخلص من الأحادية والانتقال إلى التعددية التي عاشتها الجزائر خلال فترة قصيرة، قبل تدهور الأمور بسرعة ودخول نفق شبه الحرب الأهلية التي عاشتها لأزيد من عشرية كاملة. تعديلات مهما كانت خطورتها على حريات الجزائريين، تملك الكثير من الحظوظ في المصادقة عليها من قبل البرلمان، الذي لم يتعود أن يرفض ما تقدمه الحكومات المتعاقبة، إلا استثناء وبشكل جزئي، فالذي يقرر في نهاية الأمر هو موازين القوة السياسية التي عكستها آخر انتخابات تشريعية، ناهيك عما يحصل خارج البرلمان على مستوى المجتمع الكلي، الذي يتميز بغلق سياسي وإعلامي كلي، لن يساعد بالتأكيد على التأثير الإيجابي لتحسين التعديلات التي أدخلت على القانونين، أو المطالبة برفضهما ومناقشتهما من جديد بمشاركة عمالية ومجتمعية، كما يطالب بذلك الكثير من النقابات.

سيناريو متشائم يدعمه ما يحصل خارج البرلمان في المجتمع الكلي، الذي تسيطر عليه منذ عقود اتجاهات ثقيلة ليست لصالح منطق الحريات النقابية، التي تجهل النخب المتنفذة الكثير حولها أو تعاديها بكل بساطة نظرا للتنشئة السوسيو- سياسية التي حصلت عليها في وقت ضعفت فيه قيم الحرية والمساواة في البلد، الأمر الذي ينطبق على أرباب العمل والبيروقراطية الحزبية الحاضرة على رأس التنظيمات السياسية، رغم أصولها الشعبية في الكثير من الحالات. هذا ما تخبرنا به الاتجاهات الثقيلة على المستوى الوطني وحتى الإقليمي والدولي، الذي بدأت تكذبه شرارات ما يحصل في أوروبا على مستوى الحركات الاجتماعية والعمالية الكبرى، كما يحصل هذه الأيام في فرنسا وبريطانيا التي تشهد حراكا عماليا ونقابيا كبيرا جدا لم تعشه منذ عقود، توحدت فيه النقابات، كما حصل في الحالة الفرنسية المعروفة بانقسامات نقابات العمالية على أسس سياسية وأيديولوجية. حركات اجتماعية مرشحة للانتشار في كامل أوروبا نظرا لاشتراكها في الأسباب نفسها ذات الارتباط الوثيق بتداعيات أزمة كورونا والحرب على أوكرانيا، التي بدأت في التأثير في أولويات الحكومات، كالزيادة في التسليح في وقت زاد فيه التضخم المالي والغلاء الذي لم يمس الفئات الشعبية والعمالية فقط، بل الفئات الوسطى المالكة الصغيرة. حكومات تسيطر عليها في الغالب الأعم تيارات سياسية من أقصى اليمين المعادي لحقوق الفئات الشعبية والعمالية، زادت في تكريس اللامساواة بين الطبقات لصالح أقلية، كما بيّن ذلك تقرير أوكسفام الأخير، ما قد يزيد من منسوب العنف في المجتمع، الذي يمكن أن يمس حتى الحركات الاجتماعية كما حصل في فرنسا مع أصحاب اليافطات الصفراء. في زمن ضعف الحركات النقابية والسياسية في كامل أوروبا والعالم، كانت هي التي تؤطر مثل هذه الحركات في السابق.

حركات عمالية أوروبية متميزة ذات تراث تاريخي كبير يمكن أن تكسر المنطق الثقيل السائد إقليميا ووطنيا عندنا في المنطقة، لما تملكه من قدرة على التأثير كنماذج نقابية وعمالية ناجحة، كما فعلت في السابق عندما قادت الحركة العمالية الدولية.. تأثير لم يمنع كل حالة نقابية وطنية من التعبير عن نفسها بما يميزها ثقافيا وسياسيا والسرعة التي ترتضيها لنفسها. فقد علمنا التاريخ أن منطقتنا المغاربية والعربية استقبلت موجات الحركة الطلابية في سبعينيات القرن الماضي بعد ترسخها في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وهو الحال نفسه الذي كان مع الحركة العمالية والنقابية بعد ذلك، التي احتكت بها الحركات النقابية والعمالية في منطقتنا، فما الذي يمنع هذه المرة كذلك من أن تتأثر الحركات الاجتماعية عندنا بهذه الموجات السائدة في أوروبا؟ في وقت كسرت فيه الوسائط الاجتماعية كل الحواجز بين الشعوب والثقافات. وطغا فيه منطق العولمة الهادر.

في انتظار تحقق هذه الفرضية المتفائلة المبنية على خلفية تاريخية تكررت أكثر من مرة، يجب العمل على الإجماع الوطني الذي عبّر عن نفسه نقابيا في رفض هذه التعديلات والمطالبة بنقاش اجتماعي أوسع، كان الغائب الأكبر حتى الآن. فمثل هذه القوانين يجب عدم تركها لبرلمان ضعيف التمثيل. ظهر في ظرف استثنائي عاشته الجزائر – للبت فيها، في ظل مقاطعة شعبية شبه عامة لمجمل العملية الانتخابية التي حصلت في تلك الفترة، لم يتجاوز فيها معدل المشاركة إلا 23.02% على سبيل المثال في الانتخابات التشريعية.

مصلحة الجزائر والجزائريين تقتضي أحسن من هذا السيناريو الذي ستكون له تبعات طويلة المدى على فكرة الدولة الاجتماعية في الجزائر ذاتها، إن تم تمرير هذه التعديلات بالشكل الذي وصلت به إلى هذا البرلمان المأزوم. ستضعف بالتأكيد التنظيمات النقابية وتفرغها من محتواها البشري، في وقت يعيش فيه عالم الشغل تحولات عميقة قد يكون العنف ـ لا قدر الله ـ أحد اشكال تعبيره إذا لم نعرف كيف ننصت إليه، في وقت تعيش فيه الجزائر وضعا اقتصاديا مساعدا نسبيا، يمكن أن يبعدها عن الاتجاهات الموغلة في السلبية، التي تظهر في بعض الدول العربية على شكل انهيار للعملة.. وغلاء وتشنج في العلاقات الاجتماعية، يمكن أن يعيد النظر في كل البناء المجتمعي والسياسي.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here