معن البياري
أفريقيا برس – الجزائر. لا يخترع الرئيس الفرنسي، ماكرون، جديدا، عندما تكون الجزائر من أوائل وجهاته الخارجية في شهور ولايته الثانية، بل وعندما تكون أول بلد مغاربي يزوره (كان المغرب أولا في ولايته الأولى)، فهذا مما يكاد يعدّ عُرْفا أخذ به رؤساء سابقون، ساركوزي وشيراك مثلا. لكنّ ما يواكب هذه الزيارة التي تُختتم اليوم السبت، من تعاليق بشأنها وقراءات فيها، يوحي بأنها حدثٌ غير عادي، وبأن “قطيعةً” كانت بين البلدين أنهاها قدوم الرئيس ماكرون، مرفوقا بوفد من 90 شخصا، وهذا غير دقيقٍ تماما، وإنْ عبرت العلاقات، في العامين الماضيين، في محكّات توتّر، بعضُها على شيءٍ من الصعوبة، من قبيل منع الجزائر تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية في أجوائها، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، واستدعت سفيرها من باريس للتشاور، عقب تصريحات “غير مكذّبة” (بتعبير بيان للرئاسة الجزائرية في حينه) للرئيس ماكرون، اعتبرتها “غير مسؤولة”. وكان الأخير قد نُسب إليه قولُه إن الرئيس عبد المجيد تبّون “عالقٌ في نظام صعب جدا”، وإن النظام الجزائري الحالي منهَك. لم تنزلق العلاقات، بعد هذا إلى تدهورٍ ملحوظ، وإن أخذت الصحافة الجزائرية في ما كتبت “راحَتها” في الأثناء.
ليست مقولة تغليب المصالح وتبادلها وحدَها تفسّر الحرص العميق لدى الدولة العميقة في كل من باريس والجزائر على حماية العلاقات من تداعيات عوارض حادّة، وإنما أيضا ثمّة بعدٌ استراتيجيٌّ أكثر عمقا يبقى الفاعل الأهم في هذا، وإنْ تُشعرك تصريحاتٌ ساخطة (جزائرية غالبا) لمسؤولين هنا وهناك، وتعبيراتٌ إعلامية نشطة تستخدم متاريس الغضب والحنق، بأنهما نذر حربٍ قد تقع بين لحظةٍ وأخرى. وعندما يقول الرئيس تبّون، في المؤتمر الصحافي المشترك مع ضيفه ماكرون، أول من أمس، إن محادثات الساعتين “الصريحة” بينهما “تنمّ عن مدى خصوصية العلاقات بين بلدينا وعمقها وتشعبها”، فإنه يؤشّر إلى هذا البديهي. وعندما يُعلن اتفاقا على “توجّهٍ جديدٍ” في العلاقات يقوم على “مبادئ الاحترام والثقة” من أجل “إرساء علاقات استراتيجية”، فإنه في هذا لا يهيئ الرأي العام في بلاده لطوْرٍ جديدٍ ستعبُر إليه العلاقات مع باريس، وإنما يثبّت واقعا متحقّقا، ويؤكّد للجميع أن الإرادة السياسية في كل من الإليزيه وقصر المرادية قويةٌ بما ليس في وسع أحد أن يقيس قوتها باتجاه صيانةٍ دائمةٍ للعلاقات، وهذه من بالغ البديهيّ أن تشهد خلافاتٍ واختلافاتٍ وتبايناتٍ في هذا الملف أو ذاك، وأن تعرف نزَقا في كيفية التعامل مع هذه المسألة أو تلك. وفي هذا الخصوص، أعلن الرئيس الجزائري عن تكثيف عمل لجانٍ وزاريةٍ مشتركةٍ “من أجل تجاوز مختلف العقبات التي تواجه تحقيق أهداف شعبينا وبلدينا”.
سيبقى معلّقا، وموضوع أخذ ورد وسجال، مطلب الجزائر العتيد من فرنسا اعتذارا رسميا عن استعمارها البلاد وممارساتها الشديدة الفظاظة في أثنائه. وإلى أمدٍ غير منظور، سيبقى ملفّ الذاكرة مفتوحا، وإنْ جاء ماكرون، في المؤتمر الصحافي مع مضيفه، على الرغبة في “العمل معا” بشأن “الماضي المشترك المعقّد والمؤلم”. وليس متوقعا أن اللجنة الخاصة المشتركة من مؤرّخين فرنسيين وجزائريين، والتي أعلن ماكرون عن إنشائها، لدراسة حقبة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ستُغلق هذا الملف. ولكن المهم، هنا، أن أشباح الماضي لن تعرقل المضيّ إلى مستقبلٍ يتعزّز بالمصالح والمشتركات والمنافع المتبادلة، فثمّة حاجةٌ جزائريةٌ مؤكّدةٌ لفرنسا في غير موضوع، وكذلك الأمر في الضفة الفرنسية. وفي محلّها المقارباتُ التي رأت أن فرنسا تتطلّع إلى أن يسعفها الغاز الجزائري بعد التداعيات الظاهرة للحرب في أوكرانيا، وأن هذا الموضوع عجّل في الاتصالات الرئاسية الفرنسية مع الجزائر، قبيل الزيارة التي ترافق الرئيس فيها المديرة التنفيذية لشركة “إنجي” العملاقة للطاقة، كاترين ماكغريغور.
ثمّة الحاجة الفرنسية لمساعدةٍ من الجزائر في منطقة الساحل الأفريقي، وثمّة الجهود الجزائرية الاستخبارية والأمنية والعسكرية في مكاافحة الإرهاب، وثمّة ما يمكن حسبانها دالّة جزائرية في مالي، وثمّة غير هذا كله من موضوعاتٍ تلحّ على باريس من أجل حوارٍ لا ينقطع مع الجزائر. أما قضية انخفاض عدد تأشيرات الجزائريين إلى فرنسا، وتقدّم اللغة الانكليزية المطرد رسميا في البلاد، والعلاقات الصعبة مع المغرب، فإنها في الأجندة العامة من دون أولوياتٍ مستعجلة .. وفي المبدأ والمختتم، لا مفاجأة في زيارة ماكرون الجزائر.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس