من الجزائر التي لا تكتب ولا تقرأ إلى الجزائر التي تخاف!

7
من الجزائر التي لا تكتب ولا تقرأ إلى الجزائر التي تخاف!
من الجزائر التي لا تكتب ولا تقرأ إلى الجزائر التي تخاف!

ناصر جابي

أفريقيا برس – الجزائر. احتفظت بعادة النزول إلى وسط البلد في نهاية كل الأسبوع، كما يقول إخواننا المصريين، منذ مرحلة الدراسة في الجامعة المركزية، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عادة جميلة تسمح لي بلقاء الأصدقاء والأكل في مطاعم وسط المدينة، وزيارة ما تبقى من مكتبات لاقتناء الجديد، مما يصلها من كتب، زاد إنتاجها محليا مع الوقت وقلت الرقابة عليها بعد أحداث أكتوبر 1988، فرص لقاء كونت لجيلي نوعا من الحياة الثقافية، داخل المدينة وفي شوارعها لمدة أقل من يوم في الأسبوع، حول الكتاب والصحافة الأسبوعية، التي كانت حاضرة خلال هذه الفترة، كظاهرة جيلية، قبل الغلق الذي تعرضت له لاحقا هي الأخرى في السنوات الأخيرة.

كتب تبين لي منذ شهور عديدة أن أعدادها في تناقص حاد، مقارنة بفترة أقدم، عندما كانت حركة النشر تعيش حالة ازدهار في السنوات الأخيرة، من فترة حكم الرئيس بوتفليقة ووزيرة ثقافته خليدة تومي، فترة عرفت بدعم مالي واضح للحياة الثقافية والكتاب تحديدا، بكل ما ارتبط بها من أشكال فساد، مسّت القطاع الثقافي كغيره من القطاعات الأخرى، معاينة غياب الكتاب وغلق المكتبات زاد من حجم خوفي وأنا أتذكر الورطة التي كان يمكن أن أكون فيها لو استمرت حصتي التي كنت أقدمها في تلفزيونkbc ، فمع مَنْ أنشّط هذه الحصة الأسبوعية؟ ومن أين أحصل على الكتب؟ فما كان مني إلا أن أحمد الله على غلق القناة وتوقف هذه الحصة الثقافية اللعينة التي كان يمكن أن تورطني!

ليقضي انتشار وباء الكوفيد لاحقا على هذه الحركية الثقافية، التي جعلتني أكتب في «القدس العربي» في صيف 2017 أن الجزائر تعيش ثورة ثقافية غائبة عن أنظار الجزائريين، إفراط في التفاؤل، تبين لاحقا أنه في غير محله، بعد انكسار هذه الديناميكية الثقافية التي كان وراءها المال العمومي الذي وزع على من يستحق ومن لا يستحق، وفشل في بناء مؤسسات إنتاج ثقافي تملك قابلية الاستمرارية، لعدم توفر السند الأساسي، الفاعل الثقافي، صاحب مشروع حرفي لا يعتمد فقط على ما يحلبه من مال عام مرتبط بقربه من أصحاب القرار، صاحب رؤية طويلة المدى لم تخلقه لحد الآن تجربة جزائر ما بعد الاستقلال إلا كاستثناء،

تجربة ثقافية قصيرة، بينت أن ما ينقص الجزائر أكبر من الدعم المالي الغائب – الحاضر، الذي يبقى ضروريا، ومطلوبا كريع إيجابي، فما هو غائب فعلا هو المدينة كفضاء ثقافي ومؤسسات حرة للقاء والنقاش، كان يمكن أن تحتضن هذه الحركة الثقافية التي كان يفترض أن تظهر مع الكتاب والمسرح والسينما، في مجتمع أغلقت فيه كل قاعات السينما تقريبا التي بنيت خلال الفترة الاستعمارية -حوالي 400 قاعة. في بلد يعرف إنتاجا سينمائيا موسميا، مرتبطا بالأعياد الوطنية، بتدخل مباشر للدولة التي ضاق أفقها مع الوقت، انكمش تفكيرها على مرحلة الثورة ورجالها، يمكن أن تؤدي في حال استمرارها إلى نفور الجزائريين من هذه الثورة المجيدة، بعد تبنيها من قبل سلطة لم تعد تقبل أي رؤية أخرى مخالفة لرؤيتها البيروقراطية، كما ظهر مع تجربة فيلم العربي بلمهيدي لبشير درايس الذي منع من العرض لسنوات، لأنه يحمل وجهة نظر أخرى، وقراءة مختلفة لأحداث ورجال الثورة، ومختلفة عن تلك السائدة رسميا. في مجتمع تبقى فيه قاعات مسارحه المبنية منذ الفترة الاستعمارية مغلقة طول السنة تقريبا، إذا استثنينا من ذلك النشاط الموسمي الذي تكون وراءه المؤسسات الرسمية، في مدن موحشة ليلا، تنام مع ساعات الغروب الأولى، وهو ما انعكس سلبا على الحالة الاقتصادية ـ الاجتماعية للممثلين والتقنيين، نتيجة هذه البطالة المقنعة التي يعيشونها طول السنة، إذا استثنينا بعض المحظوظين غير المغضوب عليهم، بعد فشل كل محاولات الانعتاق من هذه القبضة الرسمية البيروقراطية، التي حولت الفنان والممثل إلى أجير، وهو ما ساهم في هجرة نحو فرنسا لبعض الفنانين الذين تحولت إقاماتهم في هذا البلد إلى مخرج لهم من أزمتهم، بعد أن تيقنوا من فشل مبادراتهم التي حاولوا الاستقلال بواسطتها من الهيمنة البيروقراطية التي لم تسمح لهم بأي إنتاج مشترك مع الخارج، ولا الاستمرار في تجربة التعاونيات المسرحية التي بادروا بها بعد الانفتاح السياسي، الذي أعقب أحداث أكتوبر 1988، نظرا للغلق الذي يعاني منه البلد على مستوى الإنتاج الثقافي، الذي أكد للكثير من المبادرين بالفعل الثقافي المستقل، إنهم يعيشون في سجن كبير اسمه الجزائر، لا يحس بأغلاله إلا الذي يبادر إلى الحركة والفعل.

غياب مؤسسات الفعل الثقافي في هذه المدينة الجديدة على الجزائريين، زاد في تعقيده ما يميز الحياة الثقافية، كتلك الانقسامية اللغوية التي تميز المثقفين على أساس لغوي، زادت في حجم التباعد والتشرذم بينهم على قلتهم، ناهيك من الإنتاجية الثقافية الضعيفة للجامعة، إذا استثنينا بعض الوجوه في بعض ميادين البحث، حالة يمكن التأكد منها داخل مكتبات المدن الجزائرية، التي تؤكد حالة الجامعي صاحب الكتاب الأوحد، الذي عادة ما تكون أطروحته العلمية التي ينشرها كآخر طلقة قبل التوقف نهائيا عن البحث والنشر، سيزيد حتما، بعد الغلاء الذي تعرفه أسعار الورق، كإحدى تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية وارتفاع اسعار النقل البحري، لننتقل من الجزائر التي لا تكتب إلى الجزائر التي لا تقرأ،

وضع ثقافي عام تعيشه الجزائر لا يمكن الا أن يربط بالمستوى السياسي على أكثر من صعيد كسياسات عامة ودعم مالي ما زال مطلوبا، وتسيير للفضاء العام بالحرية التي يفترضها، ما زالت غائبة وتحت الرقابة، بعد أن عاد الخوف بين الجزائريين وهم يلتقون وهم يتحدثون في ما بينهم، نتيجة تقلص فضاءات اللقاء إلى حدها الأدنى، بعد مرحلة الحراك التي عرفت نوعا من الحيوية الثقافية والمطالبة بتنوع أكبر، في العرض الثقافي بما فيه الجانب الترفيهي، الذي تطالب به الأجيال الصغيرة في السن، حراك تم التركيز خلاله على البداية فيه بالمجالات السياسية، وليس المجال الثقافي الذي حصل اتفاق عام بشأنه، مفاده أن حل الإشكال السياسي بفتح الإعلام الذي يفترضه والحريات هو البداية الصحيحة نحو حياة ثقافية، يطالب بها الجزائريون داخل بلدهم قد لا تظهر كسبب معلن لهجرتهم، لكنها حاضرة بشكل أكيد كسبب رئيسي في تفسير هذه الهجرة التي تزداد مع الوقت وهي تتحول إلى المشروع الرئيسي والأوحد لدى الكثير منهم.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here