أفريقيا برس – الجزائر. تتباين القراءات السياسية في الجزائر، حول تعاطي دوائر القرار في باريس مع الأزمة المشتعلة منذ عدة أشهر، فبينما يعلق الخطاب الرسمي شماعة الأزمة على مشجب اليمين المتطرف، في تلميح الى إمكانية التطبيع والعودة الى الوضع الطبيعي لعلاقات البلدين، مع أي صعود للتيارات اليسارية والمعتدلة، يذهب متابعون، الى أن الأمر يتعلق بمواقف مؤسسات رسمية وليس تيارات سياسية، وأن المسألة عبارة عن تداول أدوار وليس خلافات صامتة كما يعتقد البعض، في اطار نهج التداول بين المواقف الناعمة والمواقف الصلبة في إدارة الأزمة.
أوحى قطاع عريض من الخطاب السياسي المتداول في الجزائر، الى أن تضارب تصريحات كبار المسؤولين في السلطة الفرنسية، ينطوي على خلافات صامتة داخل دوائر القرار، وتوظيف للأزمة في حسابات سياسية تتصل بالانتخابات الرئاسية المنتظرة بعد عامين، ففيما أبدى الرئيس ايمانويل ماكرون، ليونة في مخاطبة الرأي العام الجزائري، يواصل وزير الداخلية برونو روتايو، الطامح الى قصر الاليزي في 2027، حملته المتشددة ضد الجزائر.
لكن الناشط السياسي المهاجر محمد هنيش، يرى بأن طبيعة النظام السياسي الفرنسي، مهما كانت الخلافات الممكنة داخل دوائره، لا يمكن أن تخرج عن دائرة التقاليد المؤسساتية الخاضعة لسلطة الدستور، وأن ما يعتقد أنه أزمة داخل مصادر القرار الفرنسي، ما هو الا تبادل أدوار في اطار سياسة العصا والجزرة، حيث يعمد البعض الى التشدد، بينما يؤدي البعض الآخر دور الليونة.
وأكد، لـ “افريقيا برس”، على أن “الأزمة القائمة بين الجزائر وفرنسا غير مسبوقة، ولم يحدث أن نزلت الى هذا المستوى من التدني، حتى في ذروة القرار التاريخي المتعلق بتأميم الجزائر لثرواتها النفطية العام 1971، ورغم وجود أجندة سياسية تحكم بعض المسؤولين في السلطة الفرنسية، إلا أن المصالح الفرنسية تقع في صدارة الترتيب، واذا تطلبت تقديم تنازلات للطرف الجزائري سيتم ذلك، واذا تطلب العكس يمكن أن يدفع بها حتى الى القطيعة”.
ويبدو أن الموقف الجزائري المحافظ على ضبط النفس لحد الآن، يريد الاستثمار فيما يراه انقساما فرنسيا بين اليمين واليسار في التعاطي مع الأزمة، وهو ما ترجمه البيانان الأخيران لوزارة الخارجية الجزائرية في الرد على الخطوات التصعيدية المتخذة مؤخرا، حيث حملا إشارات واضحة الى حصر الأزمة في الخطاب اليميني المتطرف، رغم أن المسألة تتعلق بتصريحات ومواقف مسؤولين رسميين يمثلون الدولة الفرنسية، وهو ما يوحي الى نيتها في الإبقاء على فرص التطبيع قائمة مع أي تيار سياسي آخر، يحترم المصالح والسيادة الجزائرية.
ورغم أن آخر بيان للخارجية الجزائرية، عبر عن رفض ما أسماه بـ “المهل والانذارات والتهديدات”، في إشارة الى مهلة الشهر أو الستة أسابيع التي منحها رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو للمسؤولين الجزائريين من أجل مراجعة كل الاتفاقيات المبرمة بين البلدين، إلا أن البيان نفسه ترك الباب مواربا أمام أي تسوية مع تيار سياسي آخر، بالقول: “بذلك يكون اليمين الفرنسي المتطرف البغيض والحاقد قد كسب رهانه باتخاذ العلاقة الجزائرية – الفرنسية رهينة له وتوظيفها لخدمة أغراض سياسوية مقيتة لا تليق بمقامها ولا بمنزلتها”.
ومع أن سطوة اليمين المتطرف، على دوائر القرار السياسي والإعلامي في الآونة الأخيرة، ليست ظاهرة سياسية معزولة، وانما تندرج في سياق موجة صعود التيار في عدد من الدول الأوروبية، إلا أن الجزائر يبدو أنها تراهن على أي صعود للقوى اليسارية والمعتدلة الى السلطة من أجل تطبيع العلاقات والعودة بها الى الوضع الطبيعي.
ويرى المحلل السياسي الياس جبايلي، بأن “الأزمة المتفاقمة هي وليدة موازين قوى غير متكافئة، بين دوائر صنع القرار في البلدين، وأن التنازلات التي قدمتها الجزائر في وقت سابق للشريك الفرنسي لاعتبارات مختلفة، تحولت الى نقاط ضعف في الآونة الأخيرة، فمسألة التأشيرات الديبلوماسية رغم أنها لا تأثير لها مثلا على التبادل الاقتصادي والتجاري بين البلدين، الا أنه باتت مصدر استفزاز فرنسي للجزائر، كونها استغلت في وقت سابق من طرف الطبقة الحاكمة كامتياز ومكانة اجتماعية وليس وسيلة عمل”.
ولفت في تصريحه، لـ “افريقيا برس”، الى أن “صعود اليمين هو موجة سياسية لا تعني فرنسا وحدها بل عددا من الدول الأوروبية، والرهان الجزائري على تراجعه أو صعود تيار منافس له، يضيع على الجزائر المزيد من الوقت والمصالح، خاصة في ظل تواجد جالية تقدر بنحو سبعة ملايين جزائري، يحمل جنسية مزدوجة أو مهاجر قانوني، وحتى من المهاجرين السريين، والتي ستكون الجدار الأول لتصاعد حملة العنصرية والتمييز والتضييق”.
ولا زال الصوت السياسي والإعلامي المعتدل في فرنسا، الذي بامكانه تغيير موازين القوى، خافتا مقارنة بحملة اليمين المفتوحة، فلم يستطيع رئيس الحكومة السابق دومينيك دوفيلبان، التأثير في دوائر القرار الفرنسي، رغم الانتقادات الشديدة التي وجهها لوزير الداخلية برونو روتايو، لما خاطبه بالقول: “القبضة الحديدية وتشديد الإجراءات لا ينفع إطلاقا مع الجزائر حيث الحس الوطني متجذر شعبيا ومؤسساتيا على عدة مستويات”.
واعتبر مواقف روتايو، “غير بناءة ولا تخدم العلاقات بين البلدين، والمشاكل مع الجزائر لا تحل في الأستوديوهات التلفزيونية، ولا بتصريح في نشرة الثامنة لقناة تي. أف1، وبحكم تجربتي الدبلوماسية، أؤكد لكم أن القبضة الحديدية لا تجدي نفعا، خاصة مع دولة مثل الجزائر، حيث الحس الوطني متجذر، فضلا على أننا تربطنا بها قصة أليمة”.
ولذلك يحظى خطاب التيار اليسار والمعتدل في فرنسا تجاه الأزمة، باشادة واحترامين من طرف الدوائر السياسية والإعلامية في الجزائر، حيث تمت استضافة الرجل خلال الأسابيع الأخيرة من طرف تلفزيون “آل 24 نيوز” شبه الرسمية، كما قوبل مسعاه لتخفيف التوتر بارتياح جزائري لافت.
وذهب فاعلون سياسيون مؤيدون لمقاربة الرهان على ورقة الانقسام، الى ضرورة الاستثمار في مواقف اليسار والتيار المعتدل، والوصول الى الرأي العام الفرنسي، بأن العلاقات الطبيعية والمصالح المحترمة، لا يمكن أن تكون مع اليمين المتطرف، لكن عامل الوقت والافرازات السياسية الفرنسية لا يمكن الاطمئنان لها، فليس بعيدا أن يستحوذ التيار المذكور على الانتخابات الرئاسية القادمة، بحسب متابعين آخرين لأطوار الأزمة.
وعلى شاشة قناة “آل 24 نيوز”، صرح: “عندما تجمع السياسة الداخلية مع السياسة الخارجية، فإنك لن تصل إلا إلى طريق مسدود من خلال ممارسة سياسة الأرض المحروقة، وأن السياسة الخارجية ليست من اختصاص وزير الداخلية، بل من مهام وزارة الخارجية والرئاسة”.
ولفت الى أن “فرنسا لن تنجح في الضغط على الجزائر عبر التصريحات الإعلامية والمزايدات السياسية، لأن السياسة لا تُدار عبر نشرات الأخبار، لاسيما وأن المسؤولية السياسية تقتضي التعقل، لا التنقل من منبر إعلامي إلى آخر بحثا عن الإثارة واطلاق تصريحات هاوية”.
وحتى بيان الكتلة البرلمانية لحزب “فرنسا الأبية” المعارض، الذي تبنى موقفا مشابها تجاه الأزمة القائمة مع الجزائر، والذي جاء فيه”برونو روتايو، يسعى لإعادة بعث النظام الكولونيالي، ويريد تصعيد المواجهة وهذا أمر غير مسؤول وحقير”.
لكن كل ذلك لم يستطيع احداث التوازن الذي تسعى الجزائر لاستحداثه في المشهد السياسي الفرنسي، من أجل تحييد نفوذ اليمين.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس