أفريقيا برس – الجزائر. يرسم المحلل السياسي عبدالسلام فيلالي، صورة متفائلة عن مصير ومستقبل العلاقات الجزائرية- الأمريكية بعد عودة الرئيس دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، رغم أن قرارات الرجل هي التي ساهمت في توتر أكثر لشؤون المنطقة، بعد اعترافه بالسيادة المغربية على الأراضي الصحراوية، وبالدفع الى التطبيع بين المغرب والكيان الإسرائيلي.
ويرى المتحدث، في مقابلة مع “أفريقيا برس”، بأن التقارب المسجل بين البلدين في الآونة الأخيرة، يشي الى قناعة راسخة لدى البلدين حول أهمية كلاهما للآخر في المنطقة، ولذلك فان مفردة “بلد رائد” التي رددها قائد “أفريكوم” مايكل لانجلي خلال زيارته للجزائر، تضع البلدين على سكة التفاؤل.
لكن يبقى الوضع في منطقة الساحل، والعلاقات مع فرنسا، من التحديات الكبرى للجزائر، قياسا بالرمال المتحركة عكس التيار التقليدي، بعد دخول وتداخل مصالح واستراتجيات مستجدة، فضلا عن امتناع فرنسا عن اخراج علاقاتها مع الجزائر عن الموروث التاريخي والأيديولوجي الذي كلفها خروج من الجزائر ومن عموم المستعمرات القديمة.
تدهورت العلاقات الجزائرية- الفرنسية الى مستويات غير مسبوقة، برأيكم ما هي المخارج الطبيعية لهذا المأزق؟
يبرز التباس في محاولة فهم هذا التدهور بأنه لا توجد أسباب كافية تؤدي إليه، إذ خلال الولاية الأولى للرئيس عبد المجيد تبون برزت مساعي تقارب قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون كان أبرز مخارجها برمجة زيارة للرئيس الجزائري إلى فرنسا قبل نهاية السنة الفارطة. ولكن تصريحات الرئيس الفرنسي بخصوص عدم وجود أمة جزائرية قبل سنة 1830 وتمسكه بعدم الاعتذار عن الماضي الاستعماري في الجزائر، قد كرست صورة سلبية عنه لكن بدون تحولها إلى أزمة بين البلدين. كان هذا إلى غاية شهر جويلية الفارط حين دعم الرئيس ماكرون بشكل مباشر الأطروحة المغربية بشأن قضية الصحراء الغربية فيما يتعلق بمقترح الحكم الذاتي، أمر رفضته الجزائر بشدة وتسبب في سحب السفير الجزائري من باريس.
ثم انفجار الأزمة بشكل غير مسبوق بعد توقيف السلطات الجزائرية للكاتب الجزائري بوعلام صنصال بعد وصوله إلى مطار هواري بومدين مباشرة، وهو الذي كان حصل على الجنسية الفرنسية قبل خمسة أشهر. هذه الأزمة لها جذورها في الماضي الاستعماري ثم ما استقر كعلاقات عرَّفتها اتفاقيات إيفيان الموقعة سنة 1962، بأنه بعد اعتراف فرنسا باستقلال الجزائر وممارسة “سيادتها الكاملة والمطلقة في كل المجالات في الداخل و الخارج”، نقرأ ذلك التأكيد فيما يتعلق بحقوق الفرنسيين الذين يفضلون عدم مغادرة الجزائر بعد الاستقلال من حيث احترام ممتلكاتهم وحقوقهم المدنية والدينية واللغوية ثم تمتعهم “بوضع خاص” في مدن جزائرية كبرى. لقد انتهى كل شيء من هذه الناحية بعد تفضيلهم الانتقال إلى فرنسا، وحل إشكال كبير.
ولكن برز جانب جد مهم في العلاقات بين البلدين يتمثل في وجود جالية جزائرية كبيرة في فرنسا، أبرمت بشأنها اتفاقية سنة 1968. لقد تحسنت هذه العلاقات بشكل كبير منذ بداية ثمانيات القرن الماضي، لما استطاع الرئيس فرانسوا ميتران مد جسور تعاون وثيق تعزز مع مرور الوقت وتحول إلى نفوذ كبير مع اشتداد الأزمة الاقتصادية أولا ثم دخول الجزائر نفق الأزمة الأمنية الخطيرة في بداية التسعينات. وضع أصبحت تعتبره فرنسا مكسبا فتح لها المجال أمام تدعيم الجانب الثقافي الحساس جدا في هذه العلاقة.
ذِكرُ هذه الخلفية التاريخية مهم لجهة تبيان أن العلاقات الجزائرية الفرنسية مركبة ولا تخص متغير واحد أوصل إلى هذه الأزمة إذا قاربناها بمنظور الوطنية الجزائرية بمبادئ السياسة الخارجية الجزائرية التي ترفض أي تدخل خارجي في الشأن الداخلي والحرص على حماية مقوماتها. إن هذه المقاربة تحضر وتؤثر كلما نشبت أزمة بين البلدين، وهذا هو حالها اليوم. فيكون جوابي بخصوص “المخارج الطبيعية”، بأننا أمام مستجد مهم جدا منذ بداية العهدة الثانية للرئيس عبد المجيد تبون فيما يخص الدفاع عن سيادة الجزائر وأمنها القومي. فاعليته تتحقق عبر طريق واحد ألا وهو اعتراف فرنسا بالوقائع الجديدة في الجزائر على الصعيد الداخلي والخارجي. وقائع تتحول (داخليا) إلى طموح كبير تم التعبير عنه عبر شعار “الجزائر الجديدة” بالنسبة للتحولات الجارية حاليا (خاصة من الناحية الاقتصادية والدفاعية) وثم دورها الإقليمي الفاعل الذي من أهم متضمناته دعم حق الشعب الصحرواي في تقرير مصيره كحل وحيد لقضية الصحراء الغربية وفق مقررات الأمم المتحدة التي تصنفها كقضية تصفية استعمار (ضمن عمل اللجنة الرابعة الخاصة بالمسائل السياسية وإنهاء الاستعمار).
في كل مرة تتأزم فيها علاقات البلدين يطفو التاريخ والذاكرة المشتركة على السطح، فما هي حدود السياسي والأيديولوجي والتاريخي في زخم العلاقات الجزائرية الفرنسية؟
هذا ما كنت أشرت إليه بالجانب التاريخي في هذه العلاقة أي الماضي الاستعماري الذي ترفض فرنسا الاعتراف به ومن ثم الاعتذار عن جرائمها الكبيرة، رفض هو إهانة لدماء الشهداء والضحايا الجزائريين الذين يتجاوز عددهم خمسة ملايين ونصف وفق تقدير الرئيس عبد المجيد تبون، لما صرح بمناسبة الذكرى الـ 75 لحوادث 8 ماي 1975 في رسالة ورد فيها أيضا بأن هذه الجرائم هي: “جرائم ضد الإنسانية، وضدّ القيم الحضارية لأنها قامت على التّطهير العرقي لاستبدال السكان الأصليين باستقدام الغرباء، كما قامت على فصل الإنسان الجزائري عن جذوره، ونهب ثرواته، ومسخ شخصيته بكلّ مقوماتها”. بما يدل على عمق الجرح واستحالة معالجته بتصريحات خارج منطق الاعتراف والاعتذار كما حصل مؤخرا حين اعترف الرئيس ماكرون بقتل العربي بن مهيدي وقد كانت فرنسا تعتبر موته انتحارا.
ارتدت الأزمة السياسية بين الجزائر وفرنسا ثوب نخب أدبية وثقافية تؤدي دور الوقود، على غرار صنصال، داود، وحتى فرحات مهني زعيم حركة “ماك” الانفصالية الذي دُعي لمعرض الكتاب الفرنسي في الشمال، كشاعر وفنان، برأيكم ماهي دلالات هذا التوظيف وأسبابه، ومن يصنع الآخر السياسة أم الأدب؟
هو توظيف له أهداف إذكاء نار الأزمة من قبل الحكومة الفرنسية التي صارت تتبنى طروحات اليمين المتطرف، هذه الأهداف يمكن تحديدها في محاولة ثني الجزائر عن سياستها الصارمة في الدفاع عن مصالحها العليا وفرض منظورها في التعامل وفق مبدأ الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، مثلما هو الحال مع “قضية صنصال”.. بأنه مواطن جزائري ودخل إلى الجزائر بواسطة جواز سفر جزائري وبالتالي مشروعية تعامل العدالة الجزائرية وفق قوانين الجمهورية، فما تطالب به فرنسا من خلال الضغط لأجل إطلاق سراحه يتناقض مع ما ذكرته. ثم أيضا ملف توظيف حركة “ماك” المصنفة منظمة إرهابية، فما ذكرته هو تأكيد على الجانب العدائي في التعامل مع الجزائر في هذه المسائل.
كرست حادثة اختطاف رعية اسباني مؤخرا، الانفلات الأمني في منطقة الساحل، هل بالإمكان الحديث عن أن مصدر الإرهاب لم تعد الجماعات الجهادية وحدها، بل هناك محركون وممولون ومجندون لتحريك الرمال في المنطقة باسم الإرهاب؟
فعلا، هذا هو واقع الحال في المنطقة، ثمة استراتيجيات متداخلة ظهرت بعد التغيرات الجذرية التي حصلت على مستوى هرم السلطة (انقلابات عسكرية) في دول الساحل ومحاصرة النفوذ التقليدي للمستمعمرة السابقة فرنسا، وبالتالي فواعل دوليين جدد. هذا الوضع يؤثر على استقرار المنطقة حيث أن تحركات يمكن وصفها بالمشبوهة قد راحت تبعث رسائل غير مطمئنة إلى الجزائر على وجه التحديد، وأنا أقولها من منبركم هذا بأن انخراط دول الساحل في هذا السبيل لا يخدم مصالحها بالنظر إلى الروابط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تطورت منذ استقلالها مع بلادنا. فوجب طرح مقاربة عقلانية في ما يخص التعاون الإقليمي بما يخدم مصالحنا جميعا.
وأما عن الخبر الذي ورد من أقصى جنوبنا الكبير حول تحرير الرهينة الإسباني “نافارو كندا خواكيم” من بين أيدي جماعة إرهابية التي كانت اختطفته خلال رحلته السياحية في بلادنا قبل أسبوع واقتادته إلى شمال مالي، هو خبر مهم جدا من حيث أنه يتضمن رسالة على الأهمية القصوى التي توليها بلادنا لأمن المنطقة كلها، وذلك بالنسبة إلى ما استجد في دولة مالي من خطاب غير ودي تجاه الجزائر.
هذا التحرير يعني أيضا متانة العلاقات بين الجزائر ومجتمع الأزواد المجاور لحدودنا، ويعني أيضا أن قوات الجيش الوطني الشعبي لا تتساهل مع أي مساس بأمننا القومي وكل ما له صلة به.
فحقيقة وفي ظل الهواجس التي تجددت بعد تنصل وانهاء سلطات مالي (ممثلة في المجلس العسكري) لاتفاقيات الجزائر الموقعة مع الحركات الأزوادية المسلحة في بداية العام الماضي، قد وجدت بلادنا نفسها وجه لوجها أمام حالة انكار لما كان تحقق من سلم واستقرار في المنطقة، فيدل بالتالي هذا الاختطاف على التداعيات السلبية له.
قدم وزير الخارجية الجزائري حصيلة خطيرة عن نشاط وتجليات الإرهاب في القارة السمراء، الى أي مدى يمكن للظاهرة أن تكون جزءا من التوازنات المنتظرة في أفريقيا عموما والساحل تحديدا؟
يمكن إدراج ظاهرة الجماعات الإرهابية ضمن تداعيات عدم الاستقرار السياسي بشكل عام، حيث يتم استغلالها من أجل التاثير أو التشويش. فهذا أمر غير صحي بالنسبة للدول الأفريقية، ولو أنه لا يجب تضخيم هذه الظاهرة لأنها محدودة جغرافيا. إن تبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يوم الجمعة 24 جانفي، البيان الرئاسي الجزائري حول مكافحة الإرهاب في إفريقيا، يندرج ضمن هذه الرؤية.
عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الى البيت الأبيض، ما هي توقعاتكم لمصير ومستقبل العلاقات الجزائرية- الأمريكية، خاصة وأن الرجل هو من اعترف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وهو الذي دفع الى التطبيع بين المغرب والكيان الإسرائيلي. كما يلاحظ تقاربا جزائريا- أمريكيا منذ عهدة الإدارة الأمريكية السابقة، وتوج الآن بتوقيع مذكرة تفاهم للتعاون العسكري، فهل يوحي ذلك الى مسار معين من طرف الجزائر التي كانت تريد الانضمام الى مجموعة البريكس، وهل يمثل خيارا مريحا لها في ظل التحول الذي طرأ على شركاء تقليديين لها؟
كاستشراف، وبناء على نتائج زيارة الفريق أول مايكل لانجلي، قائد القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا “أفريكوم” للجزائر الذي صرح (حين تناوله لمستقبل علاقات التعاون بين الجزائر والولايات المتحدة الأمركية) بأنهما تتقاسمان: “الاهتمامات ذاتها بخصوص الاستقرار والأمن”، وأنهما: “سويا ستزدهران وستواصلان حماية وسلامة الشعوب”، وبعد ذلك عبارته المفتاحية التي قال فيها بأن الجزائر “بلد رائد في المنطقة” وأن “كل الدول الأخرى ستستفيد من هذه الريادة”، ثم ما تلى ذلك بالتوقيع على مذكرة التفاهم في المجال العسكري التي وقع عليها رفقة الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة.
طرحت وجهة نظر حول تقدير جديد للإدارة الأمريكية حول دور الجزائر إقليميا، بما يعني بروز تحول مهم جدا في نوعية وتطور هذه العلاقة بين البلدين التي كانت تأسس في فترة سابقة (سبعينيات القرن الماضي) على مقاربة جزائرية مفادها إرساء “سياسة التعاون المكثف مع الولايات المتحدة”. هذا الاستشراف يوصلني على طرح إمكانية تتويج هذا التعاون بزيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولما لا مبادلة الزيارة من قبل الرئيس دونالد ترامب إلى الجزائر، إن السياسة هي فن الممكن.
وعليه يمكن توقع تغير في المقاربة الأمريكي لقضية الصحراء الغربية، فالمعروف أنها صمتت طويلا أمام سياسة الأمر الواقع التي فرضها المغرب في احتلاله لهذا الإقليم بل ودعمه بشكل غير معلن للإجراءات المغربية التي راحت تناور وتلتف حول المقررات الأممية فيما يخص هذا النزاع بالتجديد الدوري لبعثة المينورسو (بعثة الأمم المتحدة للإستفتاء في الصحراء الغربية التي تأسست بقرار مجلس الأمن سنة 1991) مما حال دون تمكينها من تنفيذ المهمة التي جاءت من أجلها، أي تنظيم استفتاء للشعب الصحراوي كحل جذري ونهائي لهذا النزاع. إنه في وسع هذه المقاربة الجديدة أن تخلص منطقة المغرب العربي من سوء التفاهم القائم منذ عشرات السنين ويكفل مد جسور ثقة وتعاون لصالح شعوب المنطقة. فأعتقد أن هذا المسار يجعل السياسة الخارجية الجزائرية تعيد النظر في أولويات علاقات التعاون مع الخارج التي تكرست بالنسبة لهذا النزاع الذي طال أمده.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس