أفريقيا برس – الجزائر. استحضر الخطاب الجزائري حوادث تاريخية بعيدة للتعبير عن عمق الأزمة القائمة بينه وبين الفرنسيين، فمن أزمة خليج الخنازير خلال الحرب الباردة في ستينيات القرن الماضي، عبر وكالة الأنباء الرسمية، إلى قلعة “كانوسا” خلال القرن الحادي عشر على لسان الرئيس عبد المجيد تبون، في تصريحه الأخير لوسائل إعلام محلية، وهو ما يختزل الأزمة ويعبر عن طبيعتها وعمقها وتشعبها.
تعرضت العلاقات الجزائرية – الفرنسية خلال السنوات الأخيرة إلى سلسلة من المطبات جعلتها تتراوح بين التوتر والفتور في أحسن الأحوال، وتكون من العلاقات الدولية النادرة التي تستحضر فيها مفردات تاريخية، تعكس دور الذاكرة المشتركة في رهن مساراتها منذ استقلال الجزائر العام 1962 بعد قرن وثلث قرن من التواجد الاستعماري.
وعلق المؤرخ محمد بلغيث، على استحضار مصطلحات ومفردات تاريخية في الخطاب السياسي الجزائري، بطلب من “أفريقيا برس” بالقول: “من الصعب جدا تطبيع العلاقات الجزائرية – الفرنسية، في ظل مكابرة لوبيات نافذة في القرار الفرنسي، على عدم التسوية الندية والنزيهة للملف، وهيمنة العقدة الجزائرية على تلك اللوبيات التي لم تهضم بعد أن الجزائر مستقلة عن فرنسا، واستقلالها جاء بتضحيات جسيمة”.
وقال: “حضور المفردات والمصطلحات التاريخية في الخطاب السياسي، هو انعكاس لحاجة علاقات البلدين إلى تسوية عادلة ونزيهة لملف التاريخ والذاكرة المشتركة، قبل الذهاب إلى الملفات الأخرى، وأن النزعة الاستعمارية لا زالت تهيمن على مخيال قطاع معتبر من الفرنسيين، ولذلك يدفعون الآن ثمنه في عموم أفريقيا، حيث صارت شريكا غير مرغوب فيه، بسبب ماضيها الاستعماري وحاضرها الاستغلالي”.
ويبقى التاريخ والذاكرة المشتركة، الملف الوحيد القادر على إثارة التوتر وإحداث الاستفزاز بين البلدين، فقد كانت تصريحات مقتضبة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في خريف العام 2021، كافٍ لنسف كل ما بناه في الزيارة التي سبقت بشهرين للجزائر، وأحدثت أزمة حادة بين البلدين.

استمرار المكابرة الفرنسية لن يطبع علاقات البلدين
واستحضر الخطاب السياسي والإعلامي الجزائري مفردات تاريخية نادرا ما تدرج في العلاقات الديبلوماسية، حيث ذكرت حينها برقية وكالة الأنباء الرسمية، بأن “المصالح الفرنسية (البربوز) تخفي مناوراتها، بل أضحت تعلنها أمام الملأ وفي وضح النهار، وها هي اليوم على وشك بلوغ هدفها المتمثل في إحداث القطيعة في العلاقات الجزائرية- الفرنسية”.
وأضافت: “امرأة، ليست صحفية ولا مناضلة ولا تحمل أي صفة… يتم إجلاؤها إلى فرنسا، وفي ظرف 48 ساعة يتم استقبالها وتمكينها من التحدث في بلاتوهات قنوات تلفزيونية عمومية، وذلك دليل على أن المخابرات الفرنسية أعلنت التعبئة العامة لـ(خبارجيتها) وبات هدفها واضحا”. والخبارجي في اللسان الجزائري، هو الشخص العميل الذي ينقل أخبار البلاد الى الخارج.
وكان ذلك على هامش، إجلاء الناشطة السياسية المعارضة الفرانكوجزائرية أميرة بوراوي، في فبراير العام 2023، مرورا بتونس، وبدل استعادتها من طرف السلطات الجزائرية، تدخلت السلطات الفرنسية لدى نظيرتها التونسية وأجلتها إلى فرنسا.
وشددت الوكالة الرسمية الجزائرية في برقيتها، على أنه “ليعلم هؤلاء أنه إذا فكرت فرنسا في تكرار العام 2023، سيناريو خليج الخنازير، فإنهم قد أخطأوا في العنوان، وأن الجميع يعلم أنه يوجد على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي، خطة تقضي بتقويض العلاقات الجزائرية-الفرنسية، يتم تنفيذها من قبل عملاء سريين و(خبارجية)، وبعض المسؤولين على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي ووزارة الخارجية الفرنسية، وكذا بعض المستشارين الفرنسيين من أصل جزائري لا يخفون ولعهم وتبجيلهم للمخزن”.
وتذكر روايات تاريخية، بأن مفردة “بربوز” مصدرها فرقة من العملاء السريين نشرتها السلطات الإستعمارية الفرنسية بالجزائر في أواخر عام 1961، كانت تستعمل لِحَى مُزيفة للتخفي.
لا سائح ولا متذلل
وتضيف: “تعداد هذه الفرقة بين 200 و300 شخص، جندتهم السلطات في عهد شارل ديغول، ويعملون لصالح جهاز المخابرات الخارجية الفرنسية، من أجل مواجهة نشاط المنظمة السرية بالجزائر العاصمة، وقاموا بعدة عمليات ضدها”.
وجاءت العبارة المثيرة التي أطلقها الرئيس عبدالمجيد تبون، في أول ظهور إعلامي له مع وسائل إعلام محلية، خلال ولايته الرئاسية الثانية، “لن أذهب إلى كانوسا”، لتعيد نوعية الخطاب الدبلوماسي السائد بين البلدين، وأن الأزمة أعمق من مجرد توتر عابر أو معقد، ما دام يستحضر أحداثا تحمل دلالات ورسائل حادة.

واستغل الرئيس الجزائري فرصة السؤال عن علاقات بلاده مع فرنسا، وزيارته التي كانت منتظرة نهاية الشهر الماضي أو مطلع الشهر الجاري، ليطلق رسالته القاضية برفضه الخضوع والتذلل للطرف الآخر، وعاد إلى التراث الإنساني لاستحضار حادثة “كانوسا”، التي ترمز للذل والهوان، ممهدا لذلك بقوله: “لن أخضع لأوامر أحد”، “لن أذهب إلى كانوسا”.
فعبارة إذلال أو كفارة كانوسا التي مثل بها الرئيس تبون في حواره عندما سئل هل يزور فرنسا فقال (لن أذهب إلى كانوسا)، باختصار هي حادثة تاريخية عن اعتذار الامبرطور الروماني هنري الرابع للبابا غريغوري في قلعة كانوسا في ايطاليا التي أصبحت رمزا للاذلال والخضوع، فشبه الرئيس زيارة فرنسا كـ(الذهاب الى كانوسا).
وتدور أطوار الحادثة المذكورة، في موقع تاريخي يقع في إيطاليا، ويشتهر بحدث مهم في التاريخ الأوروبي يعرف باسم “حادثة كانوسا”، ففي العام 1077 حدث صراع بين البابا غريغوري السابع والإمبراطور الألماني هنري الرابع. كان هنري الرابع قد تم حرمانه من السلطة من قبل البابا بسبب تصرفاته، مما أدى إلى توتر كبير بين الكنيسة والدولة.
وفي محاولة لاستعادة سلطته، قام هنري الرابع بالسفر إلى كانوسا حيث كان البابا يقيم، وعندما وصل، طلب هنري الصفح ووقف أمام قلعة كانوسا في ثلوج الشتاء لمدة ثلاثة أيام عاري القدمين ليظهر ندمه، وفي النهاية وافق البابا على منحه الصفح، مما أعاد له بعض سلطاته.
خطاب الأمر الواقع وليس الواقعية
ومنذ ذلك التاريخ صارت الحادثة مرادفا في الأدبيات الغربية للذل والهوان، وها هو الرئيس الجزائري يعيد الحادثة على أسماع الشعبين الجزائري والفرنسي، للتعبير عن رفضه زيارة فرنسا اذا كانت بغرض التذلل.
وكانت الجزائر قد أعلنت منذ عدة أشهر، وحتى دون انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية، عن زيارة مرتقبة للرئيس تبون إلى فرنسا نهاية شهر سبتمبر أو بداية شهر أكتوبر من العام الجاري، قبل أن تتوتر العلاقات بين البلدين من جديد، عقب إعلان قصر الاليزيه عن دعمه للمقاربة المغربية في حل نزاع الصحراء الغربية، وقال في تصريحه، “الجزائر كدولة وكرئيس وكمواطن النيف هو النيف.. النخوة”.
وشدد في وقت سابق، على أنه “لن أقوم بزيارة فرنسا من أجل السياحة، هناك ملفات هامة عالقة، أبرزها الذاكرة، التنقل، التعاون الاقتصادي، والتجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية وإعادة متعلقات رمزية للأمير عبدالقادر.. وغيرها”.
لكن الناشط السياسي المعارض إسلام عطية، علّق على تصريح الرئيس تبون، لـ”أفريقيا برس”، بالقول: “الجزائر دولة معزولة عالميا، تبون انتقد الاتحاد المغاربي ثم الجامعة العربية واعتبرها دون أي دور، رغم أنه كان متحمسا لها حين نظمت في الجزائر.. الاتحاد الافريقي بدأ ينحرف، البريكس هناك تآمر بداخله، الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن لا يحترم القانون الدولي، فرنسا علاقاتنا معها تحكمها شعرة معاوية.. كل هذا يؤكد استمرار نهج الدبلوماسية الفاشلة التي مورست في العهدة الأولى والتي ستعمق من عزلتنا”.
وأضاف: “خطاب تبون، هو خطاب القوة وليس خطاب القوي، وخطاب الأمر الواقع وليس الواقعية، وخطاب الإنكار وليس الاعتراف بالمرض”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس