مليشيات الثقافة العربية: عن الكولونيل بن داود وأبو شباب الأدب العربي

مليشيات الثقافة العربية: عن الكولونيل بن داود وأبو شباب الأدب العربي
مليشيات الثقافة العربية: عن الكولونيل بن داود وأبو شباب الأدب العربي

أمل بوشارب

أفريقيا برس – الجزائر. نادرون كـ”أبي شباب” أو يكاد ينعدمون أولئك العملاء الذين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي ممن يذكر الجزائريون أسماءهم، بالرغم من أن المصادر التاريخية تتحدث عن قوات تتكون من نحو 450 ألفا.

هرب منهم نحو 20 ألفا إلى 40 ألفا إلى فرنسا بعد استقلال الجزائر (1962)، وصنعت لهم فرنسا لاحقا معالم صغيرة بثتها في بعض مدنها لتخليد عبوديتهم، مع تخصيص معاملة تمييزية ضدهم وضد أبنائهم طيلة 60 سنة على الأراضي الفرنسية.

على الجانب الآخر، تعجّ الذاكرة الجماعية والفردية للجزائريين بأسماء وصور شهداء ومجاهدي الثورة التحريرية وحركات المقاومة الشعبية على مر التاريخ الجزائري، ممن تتوزع أسماؤهم على الشوارع والجادات، والمدارس والمعاهد، والمسارح ودور الثقافة.

العملاء والحركة الوطنية الجزائرية

وهكذا نشأ كلّ جزائري، وهو يحتفظ في ذاكرته الحميمة بقائمة أسماء، قد لا يعرف وجوهها، لكنها تشكل جزءا من تاريخه الشخصي. إذ لا يمكن لأي جزائريّ أن يستعيد محطة من سيرته الذاتية دون أن يمرّ بظلّ شهيد أو مجاهد واحد على الأقل، شكّل مَعلَما من معالم حياته: اسما لمدرسته، أو شارعا قطن فيه، أو ساحة عبرها مئات المرات.. روحا ضحت من أجل أن يعيش هو حرا ومستقلا.

في المقابل، اختصر الجزائري جميع العملاء الذين اختاروا خدمة المستعمر خلال الثورة باسم: “الحَرْكَى” (مفردها حَرْكِي) بالفرنسية (les harkis)، وهو المصطلح الرسمي الذي اختاره الجيش الفرنسي للوحدات المسلحة التي كانت تضم الجزائريين المتعاونين مع الاستعمار، والذي أصبح يستخدم في التعبير الجزائري الدارج لاحقا كمرادف للخيانة، بل أشد وقعا، بسبب ما تختزنه المفردة في الوعي الجمعي من عار أن تكون خائنا لأهلك وخادما لمن يحتل أرضك.

ولم تبق هذه الكلمة حبيسة حقبة تاريخية محددة، بل امتدت إلى يومنا هذا في وصف كل من يتنكّر لهويته وانتمائه الحضاري، ويبيع نفسه للمستعمر.

ولعل أحدث استخدام لهذا الانزياح الدلالي مما هو عسكري لما هو ثقافي أتى قبل أشهر قليلة، مع الإطلالة الإعلامية للسيدة وسيلة داود، قالت فيها -خلال مقابلة مع قناة تلفزيونية خاصة- إنها تشعر بالأسى لأن هناك من يعتقد أن والدها “حركي”.

فخرجت الشقيقة الصغرى لحماية ذكرى والدها من عار كاد أن يلحقه الأخ الأكبر بعائلة بأكملها، وهو يلوّح في باريس من على شرفة مطعم “دروان” بكتابه المسروق من ملفات طبيّة لمريضة في مستشفى وهران.

والواقع أن مثال “الحركى” الجدد المنتمين إلى عالم الثقافة لا يقتصر على الجزائر، وهي بلد لها تاريخ طويل في مقارعة الاستعمار، ولكنه يمتد إلى بلدان عربية عدة، وإلى كافة بلدان جنوب العالم ممن لا تزال أراضيهم تشكل مطامع استعمارية لقوى لا تزال مرتبطة بمشاريع إمبريالية قائمة.

بل حتى إلى بلد كإيطاليا كما يؤكد وزير الدفاع الإيطالي نفسه، غويدو كروزيتو، ضمن أحدث إصدارات الصحفي الإيطالي برونو فيسبا “نهاية العالم” (أكتوبر 2025) الصادر عن مطبوعات “راي- موندادوري” والتي تحدث فيها عن “حرب هجينة إدراكية تشن على إيطاليا من خلال نخب تتم رشوتها بطرق تقليدية”.

المليشيات الثقافية

وأن يخرج وزير دفاع دولة كبرى للحديث عن التهديد التي تشكله النخب الثقافية الفاسدة، ليس سوى دليل على أن الحروب الثقافية ليست أقل خطرا من الحروب التقليدية، وأن المثقفين المأجورين في صفوفها مثلهم مثل المقاتلين المرتزقة في الحروب العسكرية.

ولعل الكاتب والمترجم الجزائري السعيد بوطاجين كان من أوائل الكتاب الذين ربطوا بين ما هو ثقافي وما هو عسكري حين سك مصطلح “المليشيات الثقافية” للتحذير من النخب المرتهنة.

والواقع أن إيطاليا نفسها شهدت مؤخرا طلعات صهيونية نفذتها مليشيات ثقافية بأسماء عربية أخذت تجوب الجامعات الغربية لبث سرديتها، ومنها نزول كاتب عربي على إحدى الجامعات الإيطالية العريقة حيث وصف في محاضرته الشعوب العربية أنها: “شعوب متخلفة، لا أمل فيها ولا تحمل حسا مدنيا مثل الشعوب الغربية”.

وللأمانة، فإن مضيفه الإيطالي بدت عليه علامات التعجب والإحراج من خطابٍ بدا فيه المثقف العربي متفانيا في شتم مجتمعه، ولو لم يكبح جماحه، لوصلت جرعة الحماسة بالكاتب العربي مناشدَة إيطاليا ودول الناتو من ورائها، باستعمار الدول العربية واحدة واحدة لجلب الحضارة لشعوبها.

والواضح أن هذا الكاتب (وغيره) لم يأت سوى بمهمة تسويغ مشاريع وصاية قادمة للمنطقة أمام طلبة إيطاليين من جيل زد، أبانوا عن وعي كبير خلال حرب الإبادة التي شهدتها غزة، ولكن ما قد يسمعونه على لسان نخب ثقافية محسوبة على العرب نفسهم، قد يبرر لهم فكرة عودة الاستعمار الغربي للمنطقة تحت أي مسمى.

من العملاء العسكريين إلى المثقفين المرتزقة

وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشعوب العربية لاعتداءات ممنهجة على يد مثقفين يدّعون تمثيلها في المحافل الدولية، ويقدّمون بلا حسيب ولا رقيب المسوغات الثقافية لاستعمارها، يحذر وزير الدفاع الإيطالي مواطنيه من العبث بتكوينهم الثقافي مؤكدا أن “اختراقا من هذا النوع قد يحصل معه أي شيء”!

وليس بعيدا عن المثقف العربي الذي لم يتحرج من استخدام لغة العدو الاستشراقية الفاضحة لتوصيف أبناء جلدته والتبرير لاستعماره، خرجت كاتبة هندية قبل أيام على صفحات جريدة إيطالية كبرى مصرّحة بشعرية ما بعد حداثية مدروسة: “جعلتُ من الهزيمة صديقتي”، ليتم الاحتفاء لأيام عدة بهذا العنوان على شريط أخبار غوغل للأخبار الثقافية باللغة الإيطالية.

ولتفكيك هذا الخطاب الانهزامي الممنهج الذي أصبح يطبع لغة من يتم تقديمهم في الغرب على أنهم مثقفو جنوب العالم، لا بد من العودة لكتاب “عودة الإكليروس: مسألة المثقفين اليوم”(1999) والذي ينظّر فيه الفيلسوف الإيطالي كوستانزو بريفي (1943 – 2013) لأفول دور المثقفين التقليديين وبروز طبقة ثقافية في الألفية الثالثة تكون مهمتها تكريس هيمنة القوى الرأسمالية العظمى من خلال اعتماد مفردات ما بعد الحداثة التي تستكين لكل ما هو صغير، وانهزامي، وحقير وهامشي.

وسيختفي هؤلاء المثقفون، بحسب الفيلسوف الإيطالي، وراء شعارات “حقوق الإنسان” لمداراة دورهم الحقيقي في النظام العالمي الجديد.

وترصد الدول الكبرى ميزانيات ضخمة للترويج لمثقفي الجنوب الذين يتبنون خطابات الهزيمة والعدمية والتخاذل، وتحاول تقديمهم للرأي العام الغربي كممثلين لمجتمعاتهم من خلال دعوتهم للجامعات ومعارض الكتاب ومختلف المهرجانات ومنحهم الجوائز لتكريس الأكاذيب عن شعوبهم، وبث سردية الاستكانة للهيمنة.

تماما مثلما ترصد على الصعيد العسكري ميزانيات مهمة بحسب تقرير شبكة سكاي نيوز البريطانية الأخير من أجل تلميع مليشيات إجرامية كعصابة “أبو شباب”، وتقديمها للرأي العام الغربي على أنها ممثلة لـ”غزة الجديدة” التي ترضى بالاستعمار وتنبذ المقاومة.

والواقع أن التاريخ الذي علمنا أنه يعيد نفسه لن يضع عصابات “أبو شباب” وإخوانه في “المليشيات الثقافية”-مهما جُندت لهم شبكات العلاقات العامة لتلميع صورهم- سوى في خانة “الكولونيل بن داود”، وهو العميل الوحيد الذي يحفظ الجزائريون اسمه لأنه تحول إلى أمثولة شعبية.

إذ يُحكى أن الكولونيل بن داود تعرض للإهانة والتمييز العنصري في مناسبة فرنسية عامة بسبب أصوله العربية، بالرغم من تعليمه الفرنسي والمراتب العسكرية التي بلغها، وبعد كل الخدمات التي قدمها للمستعمر، ليقال إنه انتحر بعد الواقعة، ويصبح المثل السائر على لسان الجزائريين في كل خائن يعتقد أن المستعمر سيرفع من قدره: “العربي يبقى عربيا ولو كان الكولونيل بن داود”.

وهكذا سيتحول مثقفو الاستعمار الجديد بدورهم إلى نكرات في الوجدان العربي، وأضحوكات يُتندر عليها في الغرب (وهم من يطلق عليهم “tokens” في الدوائر الثقافية الغربية، أي أولئك الذين يُستَخدَمون كرموز للتنوع أو التمثيل الشكلي فقط) بحضورهم مدفوع الثمن، وغير المرحب به سوى لتحقير أنفسهم والحط من مجتمعاتهم، مهما حاولوا من أجل تبرير عمالتهم التمسح بالحداثة وبعدها، وليّ عنق الأدب والفلسفة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here