أفريقيا برس – الجزائر. لا تحلو الحياة إلا حين تصير مكابدةً بين مبدأ تُؤْمِن به، وواقعٍ يتحدّاك ويستفزُّك، فتصيرُ أنت مثل زوْرقٍ يواجه أعاصير الحياة بمجْذفيْن، ويناطح تموُّجات النهر بساعِدَيْن ومِرْفقَيْن، وكلُّ ما عليك فعلُه لتحفظ توازنك وأنت على زورقك، وتصُون حياتك من هلاك إلا أن ترْكِز بصرك، وتغرز عينيْك على نقطة الهدف التي ترجوها، وبَرّ الأمان الذي ترنوه وتنشُده، ذلك ما يقرره المؤلف الجزائري طه كوزي في كتابه ” معركة الوعي…إذا تحرّك الضمير تحرّك التاريخ” الصادر عن داريْ “الفكر” السوريّة و”كتابك” للنشر والتوزيع.
أمّا إن أسْلمْت عينك وذهنك للتيار الجارف، وتركْت بصرك يسبح يُمْنة ويُسْرة فإنك لا محالة ستفقد البوصلة، وتُضِيعُ الوجهة، وتُحْشر مع الهلْكى والغارقين…
إنها الحياة حين تصير ساحة “لمعركة الوعي”، ونزال “الفكر والفعل”، ومواجهة الخيانة بالتناغم، ومنازلة الحقد بالحب والسماحة، ومبادلة التخلف والتقهقر بالفعالية والانطلاق، ومطارحة التشرذم والتفرق والتشتت بنية الوَزَع وإرادة الاجتماع…
فكلما ازدادت الحياة حرارةً واتقادًا ولهيبًا ازدانتْ جمالا، وحلاوة، وبهاءً؛ لأنها ترْصِف الأبيض إلى الأسود، والأحمر القاني إلى الأخضر الداكن، والأقْحُواني إلى الرمادي؛ فيصير عمر الإنسان لوحة زيتية بهيّة الألوان ترْوِي قصة زوْرق مشدودِ العزيمة مفتول السواعد والعضلات…
أما حين تتسرّب البرودة إلى عروق الإنسان، وحين تسْري في مفاصله البلادَة والسذَاجة والسماجةُ، ويغْدو تائها بين “الـمُول” و”الملعب” وبين “الوظيف” و”الـرغيف”، وبين “صفحة زرقاء فايسبوكية” و”لعبة إلكترونية خرقاء” (Social Game) تغدُو حياتُه حياة القطعان السائمة، لا يستفزها إلا الكلأ، ولا يُغْرِيها إلا مزيد من العلَف… هكذا يُرادُ لإنسان هذا العصْر أن يقضي نهاره، ويلتهم ليله بين: نخب نواسي مُسْكِر، وغريزة جنسيّة جارفة، وتيهٍ فكريٍّ مزْمِن…
حين أجول شوارع “عالم المسلمين” وأزقّته، يقول المؤلف في المقدمة، أجد الشباب تملؤهم حيرةٌ وشدَه، وتستنْزفهم تساؤلات عن واقعهم، وغدِهم، ومآلهم، ولعل هذا التوتّر الفكريّ سمة إيجابية فيهم، وسجيّة من سجاياهم، فهم رغم كلّ ما يحيط بهم من فتن وحُرُوب، ورغم كلّ ما يخنق واقعهم من تخلُّف وتقهقُر إلا أنهم يبْحثون عن مخارج النّجدة من مأزقهم الحضاري، ويطرقون الأبواب، ويستطْرِقون المنافذ بحثا عن الحل والترياق…
إننا، نحن المسلمين، في هذا العصر ممتحَنون فيما يُمتحَن فيه غيرُنا من بني البشر؛ فإن نحن اعتنقْنا قضية فكرية وهمًّا حضاريّا صرْنا في “معركة الوعي” فُرْسانا، وفي المواجهة الحضارية رقْما صعبا، أما إن تسرّبت البرودة إلى أفكارنا، وتعطّلتْ ضمائرنا، وتكلّست عواطفنا وهِمَمُنا؛ فإنّنا سنبقى قطيعًا همَلا، وسنواصل السير على هامش التاريخ، وحوافّ الجغرافيا.
إن هذا الكتاب، الذي توزعه في الجزائر مكتبات ناجي ميغا بوكستور، مرآةٌ عاكسة لتلك الحيرة التي تخنق “عالم المسلمين” مشرقا ومغربا، وتعبير صادق عن معالم “معركة الوعي”، ومحاولة لرسم ساحها وساحتها، وتبيّن العدوّ فيها من الصديق، والحليف من اللئيم.
يذكّرنا هذا العمل الفكري أنّ “معركة العصر” إنما هي معركة فكرية بامتياز؛ إذ لا تحسم معاركه الرشاشاتُ والخوذ والدبابات والمدافع؛ لأنها مواجهة في ساحة الأفكار، والمفاهيم، والإستراتيجيات… ومن انتصر في هذه الرقعة والبقعة استسلمت له بقية الجيوش، وحِيزتْ له ما سواها من المعارك، وخرج منها منتصِرا عزيزا، على حد تعبيره.
“معركة الوعي”، في فصلها الأول تضعنا أمام اختبار عسير اسمه “مراكز التفكير”، و”الجامعات البحثية”، و”الجماعات العلمية” التي تعجُّ بها القوى الحضاريّة الفاعلة في هذا العصر، فيسافر الكاتب في هذا القمطر بين مفهوم “الجامعة البحثية” ودلالة “مراكز التفكير”، ويكْشف إشْعاعيّا عن أوْرامنا وأسْقامنا وعن الأسباب التي حجبتْنا عن تشْييد “مراكز التفْكير”، وجعلتنا ضعفاء مهزومين مهزوزين في مواجهة ترسانة فكرية بحثية أبطالها: مستشرقٌ غربيٌّ، ومنصّر مسيحيّ، وقرصان اقتصاديٌّ…
ويتساءل عن عدم قدرة باحثينا على التواصل والاجتماع، ليضع، بعد ذلك، “الجامعة البحثية في الميزان”، ويرصد إثرها سلوك أحد أكثر مراكز التفكير الغربية تآمرا وشراسة، ونبصر سلوكه ومزاجه ومناهجه؛ علنا نتعلم من أعدائنا ما لا نجده عند حلفائنا وأصدقائنا.
“معركة الوعي” في فصل من فصولها تذكِّرنا أنّ ساحة المدْرسة، والترْبية، وإستراتيجيات التأْديب والتهْذيب هي قلب المعركة، ومحطُّ الرهان، وأنّه لا إستراتجيّة لأمّة من دون بيداغوجيّة ترفعُ ذكرها، وأنْ لا أمّة من دون مدْرسة تصْنع حاضرها ومستقْبلها.
“معركة الوعي” تُنْبِئنا أن المواجهة ضارية في حقول “المفاهيم” الملغّمة، وفي دلالة المصطلحات المسممة المعفَّنة، فنكتشف أن ثمة إستراتيجية شرسة تترصد العقل المسلم في علاقته بدينه، وإيمانه، ورؤيته الكونية، وهي لم تعد تراوده عن نفسه أو تشغله عن دينه بامرأة عارية أو شهوة جارفة؛ لكنها تعمد اليوم إلى تشويش المفهوم وتشويهه في عقله وقلبه، فإن نجحَتْ في ذلك فقَدَ المسلم كل ثقةٍ في دينه، وصار دينه، في نظره، عورة ينبغي سترها…
حاول المؤلف أن يتبيّن كيف للإنسان في هذا العصر، وأمام سيل الأخبار العاجلة والأحداث المتسارعة أن يتمالك توازنه أمام هذا السيل الإخباري العاجل، وكيف له أن يستلّ مما يموج حوله ويمور: “القاعدة” و”المعيار”، وألا يتيه أو يجرفه التيار، فلا ينفعل بل يفعل ويتفاعل.
وبين هذه الفصول وتلك؛ سيسافر إلى “قاهرة المعِز” ومنها إلى “الزيْتونة” و”القيروان”؛ ليتحسّس البلاد وأهلها وليتبيّن أن “معركة الوعي”، بدَوْرها، لا تعْترف “بسايكس بيكو” فالورم نفسه، والمعركة ذاتها تمتد رحاها وساحُها من “جاوة” إلى “مراكش”، ومن “طنجة” إلى “جاكارتا”، ولنثقف أنّ عالمنا هو نفسه قبل ما أُسْمِي “بالربيع العربي” أو بعده، فالإنسان لا يتغيّر من الخارج، ولا يرشُد إلا حين يتحرّك ضميرُه من الداخل، فتستقيم نفسه، ويتّقد عقله، وينشرح صدره؛ فتتحرّك، بذلك، جوارحُه وأركانه.