يوم يسمع الجزائريون في المهجر نداءً مخلصا سيأتون حبوا لبناء وطنهم!

12
يوم يسمع الجزائريون في المهجر نداءً مخلصا سيأتون حبوا لبناء وطنهم!
يوم يسمع الجزائريون في المهجر نداءً مخلصا سيأتون حبوا لبناء وطنهم!

افريقيا برسالجزائر. الصراحة هي أفضل السبُل لمعالجة أعطابنا العلمية والمعرفية والتنموية.. والصراحة هي الخيط الذي انتظم هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور نوار ثابت الذي يستعرض فيه تجربته، ويتحدث فيه عن حقائق الواقع العلمي الوطني، وما يجب لنحقق الانطلاقة العلمية المعرفية المطلوبة. الحوار غنيّ بالحقائق والوقائع والأرقام والإشارات والتوجيهات…

تتابع ـ دون شك ـ الحركة العلمية والبحثية في العالم العربي عموما. كيف تبدو لك مقارنة بالعالم الغربي؟

نحن نعيش في عصر الشفافية التي لا تترك مجالا لتلاعب السياسيين. لغة الأرقام لا تقبل التأويل، وهي تكشف بوضوح عن وضع غير مريح في العالم العربي، نحن في المؤخرة، ومعظم المؤشرات هي باللون الأحمر. قاعدة بيانات SJR تبين أن العالم العربي ينتج ما يقارب 3.7 منشور علمي لكل ألف من سكانه بينما ينتج الأوروبيون ما يزيد عن 51 منشورا.. تحتل الصدارة سويسرا والدول الاسكندينافية بأكثر من 60 منشورا ونجد في مؤخرة الترتيب فرنسا والبرتغال وإسبانيا وايطاليا بمعدل 30 منشورا. وتتقدم دول الخليج عن غيرها في العالم العربي بمعدل ستة منشورات.

وتحتل المؤخرة المغربُ والجزائر والعراق وليبيا والسودان واليمن. هي حقائق مؤلمة يمكن أن نجد لها تفسيرا وليس تبريرا. ليس غريبا أن تتقدم دول الخليج، فقد اهتمت بتطوير التعليم في كل مراحله من المدرسة إلى الجامعة وأقامت بنية تحتية للبحث قد لا تجد مثلها أحيانا في بعض البلدان الغربية وتمكنت من استقطاب الأساتذة والباحثين المتميزين من كل الأقطار… سألت يوما مدير مختبر معروف في أوروبا عن استقالة رئيس برنامج الخلايا الشمسية في مختبره فقال “جاءه عرضٌ من جامعة عربية لم يستطع أن يرفضه”!

هل يمكن أن تفسـر لنا بعض النتائج كضعف منسوب الابتكار والاختراع وقلة المراكز العلمية الجادة المنتِجة؟

.. اليابان وكوريا الجنوبية وسويسرا أمثلة على ذلك.. معدل عدد الباحثين في الغرب 4000 لكل مليون إنسان.. بحثتُ عن الرقم المقابل في العالم العربي فوجدتُه لا يتجاوز 800… تأخرنا كثيرا لأننا لم ندرك أهمية العلم والعلماء في صنع مستقبل الأمم.. ونحن اليوم ندفع الثمن غاليا لأننا نظلم ولا نملك صوتا يُسمع.

بالنسبـة للجزائر، وأنت أحد أبنائها وعلمائها.. كيف تبدو لك الصورة، خاصة وأنك كثيرا ما انتقدت في منشـورات هذه الأمور: إنتاج المعرفة، التسيير غير العلمي، تغليب السياسة، إسناد الأمور إلى غير أهلها، ضعف الميزانية المرصودة للبحث العلمي…؟

إضافة إلى غياب الرؤية الإستراتيجية، لم نعمل منذ الاستقلال على تطوير ثقافة التقييم والتنافس في مؤسساتنا. ورثنا مساوئ البيروقراطية الفرنسية مدعَّمة بالعقلية الاشتراكية التي ترفض التقييم باسم العدالة والمساواة!.

والحقيقة أن المساواة بين الجميع ظلمٌ للمتميز المجتهِد والمنتِج، فالعدالة هي التفريق بين الناس بعدل، هل رأيتم وزيرا أو مديرا لمصلحة في وزارة أو جامعة أو مركز بحث أقيل من منصبه لفشله في تحقيق ما سطر من أهداف!؟. بالطبع لا.

حين يفشل الوزراء عندنا “يُدعَون إلى مهام أخرى” لمواصلة الهدم، وكأننا حريصون على استدامة تأخرنا بالحفاظ على بقاء أسبابه… قال لي يوما أحد المسؤولين في وزارة التعليم العالي: “هناك أشخاصٌ يختفون من وزارة فتجدهم في أخرى… يستحيل التخلصُ منهم رغم فشلهم الذي لا يخفى على أحد، وكأنّ هناك يدا تحرص على إبقائهم في دوائر القرار…” لا يمكن أن نجدد بالقديم، ولا نستطيع البناء بأيد مارست الهدم.

كيف يمكن للجزائر أن تستفيد من الكتلة العلمائية، أي علماء الجزائر في كل الاختصاصات، من أجل إقلاع حضاري حقيقي؟

نحن أكثر الأمم إهمالا لقدراتنا البشرية.. تناولت هذا الموضوع مؤخرا مع أحد أكبر العلماء الجزائريين في المهجر. قال لي: أتدري أن كبير العلماء الجزائريين في أول جامعة أمريكية في مجال التكنولوجيا رُفضت عضويتُه في ما سمي بأكاديمية العلوم الجزائرية، وأن الأعضاء الذين تم اختيارهم من خارج الجزائر كلهم من فرنسا؟! ليس هذا تشكيكا في كفاءة هؤلاء الزملاء ولكن هناك مؤشرات تدل على موضع الداء.

لا يمكن أن نتقدم إن لم نتحرر.

وسألني أحد الزملاء: هل يمكن أن نوظف طاقاتنا في الخارج كما فعلت الصين؟ فقلت:.يوم يسمع الجزائريون في المهجر نداء مخلصا سوف يأتون حبوا للمساهمة في بناء الوطن.

العلماء الصينيون ليسوا أشد حبا للصين من العلماء الجزائريين لوطنهم، ولكن الصين تبدو أشد حبا لعلمائها.

كنت في زيارة علمية لمختبر بركلي بكاليفورنيا، أعمل مع زميل صيني.. كنا نتناقش حول الضرائب التي يدفعها الباحثون الأجانب في أمريكا، فقال: نحن لا ندفع الضرائب لأن الحكومة الصينية طلبت من الحكومة الأمريكية إعفاءنا منها حتى لا ندفع مرتين، والحقيقة إننا كذلك معفون من دفع الضرائب للصين!

في هذا السياق كيف يمكن أن نفهم أساسا هجرة الأدمغة إن لم نقل هروبها بالشكل الذي هي عليه؟ وهل من مطمع في عودتها ولو جزئيا؟ وهل لذلك شروطٌ في تقديرك؟

أنا لست متأًكدا أن هناك إرادة سياسية في القمة للحد من نزيف الكفاءات؛ لأن ذلك يخدم المصالح الضيقة للبعض والأهداف الإستراتيجية لدول لا تريد لنا أن نتقدّم.

التقيت بجزائريين في مختلف دول العالم فلم أجد أحدا يرفض خدمة الوطن من حيث موقعه.. ليس المطلوب عودة الجميع، فهو غير متاح ولكن المطلوب تقوية الشبكة التي تربط علماء المهجر بزملائهم داخل الوطن. وقد يتم ذلك من خلال تطوير وإنجاز مشاريع إستراتيجية كبيرة.

من جانب آخر كيف يمكن تيسيـر انخراط العلماء في جميع الاختصاصات في نهضـة البلاد بعيدا عن التجاذبات السياسية وغير السيـاسية؟

لا يمكنك تجنيد الطاقات إن لم تكن لديك مشاريع كبيرة تشحذ الهمم وتوقظ في الناس روح التضحية، وإن لم تكن لديك رؤية للمستقبل فلا تحتاج إلى خطة إستراتيجية، فأي طريق تسلكه يأخذك إلى مكان ما..

لم يكن العلماء في يوم من الأيام سببا في تخلف أو هدم الأوطان.. لكن السياسات هي التي تجمع أو تفرّق وتهدم أو تبني.

أنا لا أقول إن كل العلماء ملائكة شيْطنهم السياسيون لكن علينا أن نحدد من أين نبدأ.. حين تصلح القمة، ويقدَّم الأداءُ على الولاء ويتولى الأمرَ من هو أهلٌ له، فيذهب حينها الزبد ويتعاون الناس على بناء الوطن، بل ويمكن لأن يضحوا من أجل ذلك.

لدينا نحو 2 مليون طالب جامعي وعشرات الآلاف من المتخرجين والمتخرجات وهناك نحو 60 جامعة. كيف تنظر إلى هذه الأرقام كمعطى يمكن الاستفادة منه في تجسيد مشروع مجتمعي حقيقي قوامه نخب وازنة عالِمة منتِجة؟

العبرة ليست بالأعداد.. ولو كان الأمر كذلك لما كان لدول مثل بلجيكا وسويسرا أو سنغافورة اسم يُذكر.. الجامعات ليست جدرانا وغرفا لاستيعاب خريجي الثانويات، والمهندس ليس من قضى خمس سنوات على مدرجات الجامعة.. لا نحتاج المقارنة بجامعات الغرب لندرك محلَّنا من الأعراب والإعراب… عدد الطلبة في الجامعات التونسية 260 ألف طالب. أي ما يعادل ثُمن عددهم في الجزائر. لكن الإنتاج العلمي للجامعات التونسية خلال العشرين سنة الماضية يفوق إنتاج الجامعات الجزائرية بأكثر من 20%!.

جامعاتنا في ذيل الترتيب العالمي.. هي حقيقة لا يمكن إنكارها وان كانت لا تعجب الكثير ممن تحمَّلوا مسؤولية تطوير التعليم العالمي في بلادنا. لكننا نملك ما يؤهِّلنا لاحتلال مكانة أفضل من هذه بكثير.. ولذلك لا بد من الكلام الصريح وندرك حجم ما ينبغي علينا إنجازه. نظرت في الأبحاث المنشورة في قاعدة بيانات سكوبسscopus خلال الفترة 2016-2020 فوجدت أن جامعات وهران وقسنطينة وسطيف وعنابة أنتجت ما بين 300 و500 بحث علمي خلال سنة 2020.. في حين أنتجت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران أكثر من 2000 بحث وجامعة الشارقة أكثر من 1500 بحث…!

هي أرقامٌ تثير الاستفهام ولكنها تعكس بشفافية محرِجة الوضع الكارثي للتعليم العالي في بلادنا.. لازال الباحثون وطلابُ الدراسات العليا في بلادنا يسافرون إلى الخارج بما فيها دول الخليج لإجراء تجارب مختبرية بسيطة استحال عليهم القيام بها في الجزائر!

هي نتيجة سياسة فضلت استرضاء الكثير بإرسالهم للتسوُّق والتنزُّه في عواصم الغرب بدل الإنفاق على تطوير البنية التحتية المحلية للبحث.

الخروج من الوضع الذي نحن فيه يتطلب احترام مبادئ أساسية يتفق عليها الجميع: إسناد الأمر إلى أهله. وإقامة حوكمة شفافة تشجِّع على المنافسة.. حينها تتراجع الرداءة وتنتشر ثقافة التميز.

نشاطاتك الموجهة إلى الباحثين والطلاب والطالبات الجزائريين والجزائريات لقيت أصداء طيبة.. هل من فكرة عن هذا النشاط وأهدافه وماذا حقّق حتى الآن؟

ورشات الحاسوب التي قامت بها ابنتي نور الهدى كانت تجربة غنية بكثير من الدروس.. اكتشفنا فيها أنّ شغف التعلم عند أطفالنا ليس له مثيلٌ عكس ما نسمع من عزوفهم عن المدرسة.. أسباب فشل مدرستنا ليس في أطفالنا.. وبعض الآباء مستعدون للتضحية من أجل توفير سبل التعلم لهم.. أذكر ذلك الرَّجل الذي رافق ابنته من الصحراء إلى قسنطينة ليمكنها من حضور الورشة! قمنا بعديد الورشات في مختلف المدن منها الجزائر العاصمة وقسنطينة وميلة ومتليلي بغرداية والوادي… وجدنا الدعم المادي والمعنوي أينما حللنا… أوجه هنا تحية خاصة لأهل متليلي على حسن ضيافتهم التي تركت في نفوسنا أثرا بالغا.. بمثلهم يبقى الأمل ما دام في الأبدان نَفَس…

سعدت بالاطلاع على إقامة عديد ورشات مماثلة تبعت مبادرتنا في الرياضيات والإلكترونيك والمقاولاتية قام بها أساتذة ومهندسون تطوّعوا بوقتهم من أجل خدمة شباب يبحث عمن يشد على عزمه ويدعمه.

أما الجامعة الصيفية فهي مبادرة المؤسسة الجزائرية الأمريكية.. أشرفت على دورات الطاقات المتجددة.. كنا ننوي تنظيم الدورة الأخيرة في وهران لكن الجائحة حالت دون ذلك وأرغمتنا على تقديمها عن بُعد عبر محطة زوم.. فاجأنا الإقبال المتزايد للطلبة إذ تجاوز عدد المتقدمين لدورة هذه السنة 700.. لكن كان علينا اختيار 130.. هناك من حضر الدورة من أمريكا وبريطانيا واسبانيا وغيرها من الدول.

هذا الإقبال يدل بوضوح على نجاح المبادرة وضرورة توسيعها. نفكر حاليا مع المشرفين على المؤسسة في تنظيم دورات قصيرة في مجالات محددة خلال العام كله ولا نقتصر على الدورات الصيفية الكبيرة..

هو عمل بسيط يمكن أن يكون له أثر كبير. وهو مثلٌ لاستعداد الجزائريين في الداخل وفي المهجر للعمل معا من أجل خدمة شباب عليه مسؤولية إتمام البناء.

كلمة أخيرة..

تبين الدراسات الاستشرافية أن عصر الذهب الأسود بدأ بالأفول فعلا، وسينتهي بحلول 2050، فنحن نشهد ميلاد الاقتصاد المعرفي الذي تتحكم فيه شركات غوغل وفايسبوك وأخواتهما..

علينا أن ندرك أن العقول أهم من الحقول، وأن نضع المدرسة والأستاذ في مقدمة اهتماماتنا.. وإن لم نفعل فنحن إلى زوال أو تبعية مستدامة ومهينة.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here