عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. في حوار خاص أجرته أفريقيا برس مع فوزي ددش، الخبير المصرفي والاقتصادي، أوضح أن استمرار الخلافات بين المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي حول إدارة الإيرادات وشفافيتها يشكل خطراً مباشراً على الاقتصاد الوطني والاحتياطي النقدي للدولة.
وأكد ددش، أن الانقسام السياسي ووجود حكومتين متنافستين يعطلان توحيد الموازنة العامة ويزيدان من تفشي الفساد المالي والإداري. كما أشار إلى أن المصرف المركزي يمتلك الأدوات الكافية لحماية الدينار الليبي من التدهور، لكنه شدد على أن نجاح هذه السياسات مرهون بالاستقرار السياسي وتنسيق الجهود بين مؤسسات الدولة، لافتاً إلى أن عودة الشركات والاستثمارات الأجنبية تتوقف على توفر الأمن والإصلاحات الاقتصادية الجادة.
ما هو وضع المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي في إدارة الإيرادات؟
لا شك أن الخلافات بين إدارة المؤسسة والمصرف المركزي، خاصة المستمرة منها حول إدارة الإيرادات المتأتية من النفط وشفافيتها، تؤثر سلباً على الاقتصاد الليبي. فهذه السلعة تمثل أكثر من 90% من عائدات النقد الأجنبي للدولة. عدم إيداع الإيرادات في حسابات المصرف المركزي بشفافية قد يؤدي إلى فجوة في الاحتياطي الأجنبي ويضعف الوضع النقدي، مما يسبب اضطراباً في سعر العملة ومستوى التضخم، ويجعل البيانات الاقتصادية غير دقيقة. وبالتالي، يصبح المصرف المركزي في حالة تخبط دائم، وقراراته وبياناته المالية غير قابلة للقياس الاقتصادي الصحيح.
يتطلب الأمر إنهاء هذه الخلافات التي تؤثر سلباً على الموازنة العامة، وضمان تزويد المصرف المركزي بشكل دوري ودقيق بقيمة الإيرادات النفطية في مواعيدها المحددة.
هل يمكن التوصل إلى آلية موحدة تضمن استقلال المؤسستين واستمرار تدفق العائدات بعيداً عن الصراع السياسي؟
يرى ددش أن هذا الأمر ممكن نظرياً إذا بقيت المؤسستان مستقلتين عن التجاذبات السياسية، لكنه مستبعد عملياً في ظل الواقع الليبي الحالي. فالصراع على النفط أصبح المحرك الرئيسي للفاعلين السياسيين في الشرق والغرب، الذين يرون فيه وسيلة للبقاء والاستحواذ على الموارد، بالتنسيق مع جهات وشركات خارجية بعيداً عن قرارات منظمة “أوبك”. ويعتقد أن الوصول إلى آلية موحدة تضمن استقلال المؤسستين وتدفق العائدات كما كان سابقاً أمر صعب، لأن الصراع مرتبط بالمصالح الشخصية والنفوذ المدعوم من الخارج.
ماهو أثر الانقسام السياسي على الميزانية العامة وتوزيع الإيرادات؟
لا شك أن الانقسام السياسي له آثاره السلبية وتداعياته السيئة، خاصة على الوضع المالي من حيث الميزانية وتوزيع الإيرادات النفطية، وذلك في ظل غياب الدولة الموحدة والمؤسسات الشرعية، ولا سيما الأجهزة الرقابية. هذا ما نلمسه من خلال ما تمر به ليبيا من تشظٍّ واضح في مؤسساتها، إذ أصبح لكل جهة مؤسساتها الموازية في الشرق والغرب. وتواجه البلاد مخاطر متعددة على مختلف المستويات، من إهدار المال العام والنقد الأجنبي إلى غياب الرقابة الفاعلة على جميع المؤسسات، بسبب تفاقم فاتورة الفساد الكبيرة والمعقدة التي قوضت جهود التنمية والبناء والاستثمار، وباتت تهدد مستقبل الأجيال القادمة. إنّ ازدياد حجم الفساد واتساع بؤره في جميع الأجهزة الإدارية العامة والخاصة هو الثمن الحقيقي للانقسام، وبداية الضربة القاضية للاقتصاد الليبي.
ما فرص توحيد الميزانية العامة في ظل استمرار وجود حكومتين متنافستين؟
من الصعب جداً وضع ميزانية موحدة في ظل وجود حكومتين متنافستين في دولة واحدة، إذ لا توجد فرص حقيقية لاعتمادها. فحتى في حال إعدادها، ستكون باباً جديداً للفساد والهدر المالي. وبرأيي، يجب أن يقتصر الإنفاق حالياً على بند المرتبات فقط، لأنه أثقل كاهل الميزانية العامة بمبالغ ضخمة. كما ينبغي إعادة النظر فيه وفق جدول موحد للمرتبات يشمل جميع العاملين، مع منح بعض الامتيازات المبررة للتخصصات النادرة، لتحقيق مبادئ الشفافية والعدالة في توزيع الدخل بين الأفراد.
ينبغي أيضاً تفعيل نظام “المرتب اللحظي” لكافة العاملين في الدولة والممولين من الخزانة العامة، مع تجنب اعتماد ميزانية موحدة في الوقت الراهن، نظراً لغياب الدولة بالكامل، وذلك حفاظاً على الميزانية من الانزلاق في مستنقع الفساد. فالدول لا تسقط بالقنابل والإرهاب، بل تنهار بسبب ممارسات الفساد وأفعال المفسدين.
هل يملك المصرف المركزي الأدوات الكافية لحماية الدينار الليبي من التدهور في ظل الانقسام المالي؟
في الحقيقة، المصرف المركزي الحالي بقيادته الرشيدة ممثلاً في المحافظ ونائبه ومجلس إدارته قادر على إنجاح هذا التوجه، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال مبادراته والإجراءات والضوابط التي اتخذها في رسم السياسة النقدية، ومسيرة الإصلاح والانفتاح التي ينتهجها لمواكبة أفضل الممارسات الدولية في مجالات الامتثال والحوكمة الرشيدة وإدارة المخاطر. كما يعمل المصرف على المحافظة على استعمالات النقد الأجنبي ومراقبة التعامل به، إلى جانب إجراءات الضبط الداخلي لمكافحة غسل الأموال وتهريبها. وقد أصدر العديد من التشريعات والقرارات التي تتناغم مع السياسة الاقتصادية العامة، مما يعكس التزامه بالتطوير. ولدى المصرف المركزي من الأدوات الكافية ما يؤهله لأن يكون من أفضل المصارف المركزية مستقبلاً، إذا تم تبني سياساته وجعلها هدفاً أساسياً على المستويات المالية والاقتصادية والنقدية كافة.
كيف يمكن تحقيق توازن بين استقرار سعر الصرف والحفاظ على الاحتياطي النقدي للدولة؟
في الحقيقة، إن استقرار سعر الصرف يُعد اختصاصًا أصيلًا للمصرف المركزي، لكن ما يهم المصارف هو انتظام السوق وضمان تنفيذ العمليات والخدمات المصرفية المرخص لها. فالدولار، كأي سلعة في المجتمع، يخضع لقانوني العرض والطلب. إلا أن السوق الليبية تشهد طلبًا غير حقيقي على الدولار، أي طلبًا غير مرتبط باحتياجات فعلية من السلع والخدمات، بل بعوامل أخرى كالمضاربة، والتفاوت غير المبرر في الدخول بين الأفراد، والأهم من ذلك الخوف من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في البلاد التي أدت إلى اشتعال السوق الموازية وتعقيد الأوضاع أكثر.
من هنا آمل أن يعمل المصرف المركزي ووزارتا الاقتصاد والمالية على التنسيق والتشاور المستمر لوضع حزمة من الإجراءات والتدابير الكفيلة بالقضاء على السوق الموازية، وتوليد موارد جديدة للنقد الأجنبي عبر زيادة الإنتاج والاستثمار وتنويع مصادر الدخل. ومع هذه الإجراءات، سيختفي السوق الموازي تدريجيًا، مما يحافظ على الاحتياطي المطلوب لدى المصرف المركزي، مع ضرورة تقنين فاتورة الاستيراد وتحديدها بدقة.
ما العوامل التي تشجع أو تعيق عودة الشركات الأجنبية للاستثمار في السوق الليبية؟
يُعد الجانب الأمني أهم عامل لتشجيع عودة الشركات الأجنبية إلى ليبيا، وهو أيضًا أكبر التحديات التي تواجه البلاد في الظروف الراهنة. فلا يمكن بناء اقتصاد قوي ومزدهر دون بيئة آمنة ومستقرة. بعد ذلك تأتي أهمية السياسات والقوانين التي تجذب الاستثمار الأجنبي وضرورة إصلاحها وتحديثها، وهو عمل يتطلب وجود حكومة تكنوقراط قوية ومختارة بعناية، تمتاز بالكفاءة والمهنية والقدرة على قيادة الدولة ومؤسساتها على مختلف المستويات.
كما يجب بناء علاقة واضحة وشفافة بين المستثمرين والدولة، سواء المحليين أو الأجانب، لسد الفجوة في حجم الاحتياطي النقدي المطلوب لدى المصرف المركزي. ولا شك أن ليبيا تمتلك أرضية خصبة وواعدة بالاستثمارات الخارجية، لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب قيادة سياسية واعية ومدركة لحجم المخاطر والتحديات، قادرة على إحداث التحولات الكبرى والإنجازات الفعلية، وتملك الإرادة للتغيير. فدون ذلك، ستبقى المعوقات قائمة ولن تتم تهيئة المناخ الملائم لعودة المستثمر الأجنبي.
هل يمكن أن يساهم تدفق الاستثمارات الخارجية في دعم استقرار العملة وتحريك عجلة الاقتصاد؟
نعم، فالاستثمارات الأجنبية تسهم فعلاً في تدفق العملة الصعبة وتحريك عجلة الاقتصاد، وليبيا اليوم في أمسّ الحاجة إليها. إذ تمتلك البلاد نقاط قوة مهمة مثل الموقع الجغرافي المتميز، والساحل الطويل، والطاقة الشمسية، والموارد الطبيعية، والمعادن والنفط. غير أن استغلال هذه المقومات بفاعلية يتطلب عقلية وطنية واعية قادرة على قراءة المستقبل بعمق.
ويؤكد الخبير أن ليبيا تحتاج في هذا التوقيت إلى رسم استراتيجية اقتصادية واضحة المعالم بين القطاع المصرفي والحكومة، تشمل إصلاح القوانين وتحديد أولويات الإنفاق، بحيث يتمكن القطاع المصرفي من وضع خططه التمويلية للسنوات المقبلة. بذلك يمكن تحويل مسار التنمية والبناء إلى واقع ملموس، وبناء اقتصاد قوي وآمن، واستعادة استقرار العملة المحلية أمام النقد الأجنبي بعد سنوات من التدهور.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس
 
            