تقاليد شفوية وحكايات سيدي شعيب في إزران

5
تقاليد شفوية وحكايات سيدي شعيب في إزران
تقاليد شفوية وحكايات سيدي شعيب في إزران

أفريقيا برس – المغرب. في الريف الشرقي، تطوّرت تقاليد الأناشيد المغنّاة المعروفة بـ”إزران” حول شخصية محلية مقدسة هي سيدي شعيب أونفتاح. في قلب تمسمان، قرب الحسيمة، يُعدّ الضريح الذي يحمل اسمه مهدًا لهذا التراث الذي حافظت عليه النساء بالأساس منذ القرن الثالث عشر على الأقل. ورغم ندرة التوثيق، يحتل هذا المكان الروحاني والثقافي موقعًا مركزيًا في نقل هذا الفن الذي يجمع بين الرواية التاريخية والاجتماعية والوجدانية، ويتّخذ أحيانًا طابعًا ساخرًا أو تحرّريًا.

عبر الزمن، وبمواجهة النسيان، ظلّ الاحتفاء بـ”إزران” قائمًا، سواء في نسخته التقليدية أو في صيغٍ حديثة تمزج بينه وبين أنماط موسيقية جديدة. وقد تطورت هذه التعبيرات الفنية تبعًا لتحولات الممارسات الاجتماعية بين النساء والرجال، كما تأثرت بالسياقات السياسية والمجتمعية المختلفة. ففي مطلع القرن العشرين، تجاوزت الأناشيد مجال الأعراس والمناسبات الاحتفالية لتصبح وسيلة للتعبير عن قيم التحرر والانتماء إلى الأرض والقبيلة، وتمجيد المقاومة ومناهضة الاستعمار.

ووفقًا لمنشورات “التعبيرات الموسيقية الأمازيغية في التحول” الصادرة عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (IRCAM، 2017)، “غالبًا ما تُغنّى الألحان المحلية للمنطقة أثناء ترديد لازمة “لالة بويا”، التي تتكرر في معظم إزران بتنوعاتها المختلفة”. ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد الاستقلال، واصلت النساء والفنانون من المنطقة، إلى جانب المهاجرين المغاربة في أوروبا، خصوصا في بلجيكا، الحفاظ على هذه التقاليد الموسيقية وإحيائها.

تفسر هذه الرموز القوية سبب إبراز هذا المعلم التاريخي والموسيقي خلال النسخة الأولى من الأيام الثقافية للحسيمة، في 22 و23 شتنبر 2025، تحت شعار “عندما تصبح الثقافة ذاكرة للشتات”. في كتابها “تحت إزران، التراث” (2023)، تجمع الأخصائية النفسية والتربوية والكاتبة البلجيكية المغربية فتيحة السعيدي شهادات مباشرة حول هذا التقليد الشفهي، مؤكدة أهمية مركزه الأصلي في الذاكرة الجماعية.

ويتناول الفنان خالد إزري في عمله الفني العلاقة الوثيقة بين الشعر والغناء في هذا السياق، قائلاً: “حين نتحدث عن إزران، فإننا نتحدث بالضرورة عن الأناشيد. وأحرص هنا على التمييز بين إزران، التي تمثل شكلاً من أشكال التأليف الشعري العفوي والشفهي والمغنّى في لحظته، وبين الشعر المكتوب الذي يُعد نوعًا جديدًا من التأليف، مدروسًا وموحد الموضوع، وليس بالضرورة قابلًا للغناء. فبعض الأشعار خالصة في طبيعتها ويصعب تحويلها إلى ألحان”، كما تنقل فتيحة السعيدي.

إزران والأساطير حول سيدي شعيب أونفتاح

في الخلفية، تتيح هذه الدراسات فهمًا أعمق لنشأة “إزران” ومكان ميلاده الأول. إذ يُقال إن ضريح سيدي شعيب أونفتاح أدّى عبر التاريخ وظائف متعددة تتجاوز البعد الديني. ويوضح المهندس المعماري محمد الشيخ، في تصريح لموقع “يابلادي”، أن تعلم الموسيقى كان من السمات البارزة لهذا المكان في الماضي، وهو ما يفسر موقعه على قمة جبلية بعيدة عن مساكن القرية، خلافًا للعديد من الأضرحة الأخرى.

ويُبرز البناء التقليدي للضريح عناصر معمارية مميزة مثل الحديد المطاوع والخشب والأقواس، وقد أضيفت إليه أجزاء جديدة على مر القرون. وتنوّعت فضاءاته بين استقبال الزوار والتأمل وإقامة اللقاءات الموسيقية. ويؤكد محمد الشيخ أن هذه التركيبة المعمارية تعكس المكانة المحورية لهذه الشخصية المقدسة في الحياة الاجتماعية والثقافية المحلية، حيث تغتني الأساطير المتوارثة حوله من جيل إلى آخر.

وتحكي الروايات الشفوية أن سيدي شعيب أونفتاح، الذي كان راعيًا، اشتهر بعزفه على الناي الذي لم يفارقه قط. ويُقال إنه توفي في الثالثة والثلاثين من عمره، ونُسبت إليه كرامات منحته طابعًا نبوياً، كصانع معجزات ومنقذٍ للأرواح وقادرٍ على تحرير الأسرى. لذا، لم يكن من المصادفة أن تقترن الممارسة الموسيقية منذ البداية بالنساء وبآلة الناي، في الطقوس التي كانت تُقام في الضريح. ومع مرور الزمن، ظلّ البندير رفيقًا أساسيًا في أداء “إزران”، الذي تطوّر داخل فضاءات الضريح ومجالات التفاعل المحيطة به، مانحًا المكان بعدًا روحانيًا وثقافيًا علمانيًا في آنٍ واحد.

داخل يصرح محمد الشيخ بأن الروايات الشفوية تحتفظ بذاكرة غنية عن هذا المكان، مشيرًا إلى أنه على مر القرون، تدفقت العائلات بالمئات إلى هذا المعلم للإقامة فيه لمدد تصل إلى أسبوع، للتأمل، وتقديم القرابين، والتضرع لله، وكذلك للتجمع حول وجبات جماعية، وجلسات موسيقية، إلى جانب الغناء والرقص.

ويضيف: “يُقال أيضًا إنه عندما كانت الفتيات يغنين إزران جيدًا، كانت أفضلهن تتزوج خلال الأسبوع! إلى جانب الطابع الاحتفالي، يُعد هذا التقليد وسيلة لنقل القيم الاجتماعية”.

ويتابع محمد الشيخ: “كل مجتمع لديه مساحات للتعبير والتعليم والنقل الثقافي. لقد لعب الضريح دورًا مركزيًا لفترة طويلة، حتى أن بعض القبائل تقضي فيه ما يصل إلى أسبوعين كل صيف، مصطحبة عائلاتها كاملة ومؤونتها، حيث تُقام احتفالات كبيرة تظل فيها إزران عنصرًا رئيسيًا”.

إرث ثقافي يجب الحفاظ عليه

يجسد إزران، الذي يجمع بين فن البلاغة والممارسة الموسيقية التقليدية، قدرة المكان المقدس على تطوير التعبير الفني ليصبح أكثر من مجرد طقس ديني. فالناس يأتون للصلاة من أجل الرخاء، أو لإنجاب طفل، أو للاحتفال بمناسبات مثل الولادة أو التعميد، وغيرها.

على مر الزمن، غُنيت إزران في سياقات متعددة، وانتشرت على نطاق أوسع في الريف، حتى أصبحت أداة للتعبير التحرري. لاحقًا، تم تبني هذا الفن وتثمينه من قبل الجالية المغربية المهاجرة من المنطقة، خاصة في بلجيكا. ويؤكد محمد الشيخ: “إنه إرث لجميع الأعمار، بين النساء والرجال. نحافظ عليه هنا كما نحافظ عليه في الهجرة، لدرجة أنه يُقال إنه لا يمكن أن يكون المرء ريفيًا دون معرفة واحدة على الأقل من أغاني إزران”.

وفي سياق الهجرة، توفر عملية النقل نفسها معلومات عن ارتباط العائلات بأرض الأجداد. يقول محمد الشيخ: “عندما وجدت النساء أنفسهن في المنازل الأوروبية الضيقة والمختلفة تمامًا عن مساكنهن الفسيحة ذات الفناء في الريف، وجدن ملاذهن في إزران، حيث يجتمعن ويتبادلن الأغاني بينهن”.

ومنذ الستينيات، تم تبني إزران من قبل العائلات العمالية في الهجرة، وانتقل استخدامها إلى دوائر أوسع خلال التجمعات المجتمعية واللقاءات الثقافية في بلجيكا، وكذلك في هولندا وألمانيا وفرنسا وأماكن أخرى.

ويختتم محمد الشيخ مشددًا على ضرورة الاهتمام بالمهد الأصلي: “هذه الديناميكية أعادت الحياة لإرث قديم وأخرجته من النسيان، لكن الضريح يتآكل مع مرور السنين. المنطقة معروفة بنشاطها الزلزالي، وحتى عندما لا يشعر السكان بالهزات، فإن المباني القديمة مثل هذا تحتاج إلى ترميم جيد وتستحق العناية”.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس