الدعم السريع.. المليشيا التي تبتلع السودان!

6
الدعم السريع.. المليشيا التي تبتلع السودان!
الدعم السريع.. المليشيا التي تبتلع السودان!

بلال أحمد حجازي

أفريقيا برس – السودان. لا تكمن مأساة السودان في الحرب وحدها، بل في تحولها إلى “حالة دائمة” سمحت لمليشيا نشأت على رماد دارفور بأن تبتلع الدولة، وتبني لنفسها اقتصادا وسلطة تتجاوز مؤسسات الحكم نفسها.

دارفور.. الجذور التي لم تُقطع

في مطلع الألفية، حين تصاعدت التوترات في إقليم دارفور، اختار نظام عمر البشير مواجهة المطالب بالعدالة والمساواة بالقوة. فظهرت مليشيا “الجنجويد” التي جُندت على أساس قبلي لتحارب بالوكالة عن الدولة.

كان الهدف المعلن استعادة السيطرة، أما النتيجة فكانت واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في القارة الأفريقية: تطهير عرقي، واغتصاب جماعي، وقرى محروقة بالكامل. لكن بدل المحاسبة، كافأ النظام هذه الجماعات بإعادة هيكلتها رسميا تحت اسم أكثر مدنية: “قوات الدعم السريع”، بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”. وهكذا تحولت المليشيا من أداة في الهامش إلى مؤسسة داخل الدولة، محملة بثقافة الإفلات من العقاب.

بنت قوات الدعم السريع اقتصادها الموازي؛ سيطرت على مناجم الذهب في دارفور وجبال النوبة، وشكلت شبكات تهريب جعلت السودان أحد أكبر مصدري الذهب غير الرسمي في أفريقيا

من ذراع أمنية إلى جيش موازٍ

لم يكن دمج الدعم السريع في الدولة خطوة إصلاحية، بل نقلا للسلطة من المؤسسات إلى الأفراد؛ فالقوة الجديدة لم تخضع لوزارة الدفاع، بل لجهاز المخابرات، وحصلت على تمويل وامتيازات تفوق الجيش النظامي.

وحين سقط البشير عام 2019، كانت المليشيا قد صارت الكيان الأكثر تنظيما وتسليحا في البلاد، لتفرض نفسها شريكا في المجلس العسكري الانتقالي إلى جانب الفريق عبدالفتاح البرهان.. لكن هذا “التوازن” أخفى تحت رماده صراعا وجوديا بين جيش يملك الشرعية ومليشيا تملك القوة.

اقتصاد الذهب.. وقود الحرب

بمرور الوقت، بنت قوات الدعم السريع اقتصادها الموازي؛ سيطرت على مناجم الذهب في دارفور وجبال النوبة، وشكلت شبكات تهريب جعلت السودان أحد أكبر مصدري الذهب غير الرسمي في أفريقيا.

وجاءت كلمة مندوب السودان في الأمم المتحدة لتضع النقاط على الحروف؛ ففي جلسة مجلس الأمن الأخيرة، قال المندوب السوداني: “لا توجد حرب أهلية في السودان، بل هي حرب وعدوان تشنه دول إقليمية عبر وكيلها الإقليمي، مليشيا الدعم السريع”.

وبهذا التصريح الصريح، انتقل الاتهام من دوائر المراقبة إلى المنابر الرسمية، مؤكدا أن الحرب في السودان لم تعد شأنا داخليا، بل ساحة لتصفية حسابات إقليمية.

بعض الدول المتهمة بتمويل الحرب نفسها ترعى اليوم مبادرات “سلام” شكلية، بينما الجثث ما تزال في شوارع الفاشر

الفاشر.. المدينة التي تختصر المأساة

كانت الفاشر، عاصمة شمال دارفور، آخر معاقل الجيش ومركزا للإغاثة، لكنها تحولت خلال عام واحد إلى مقبرة مفتوحة.منذ مايو/أيار 2024، فرضت قوات الدعم السريع حصارا شاملا على المدينة، مانعة دخول الغذاء والدواء، حتى أعلنت الأمم المتحدة أن نصف مليون مدني يواجهون خطر المجاعة.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2025، وقعت المجزرة الكبرى: يومان من القتل الممنهج، أكثر من ألفي ضحية، وإعدامات ميدانية صُورت بهواتف المقاتلين.

وفي أعقاب انسحاب الجيش، أصبحت ولايات دارفور الخمس تحت سيطرة الدعم السريع بالكامل.

حين يصبح الصمت جريمة

رغم فداحة الجرائم، يكتفي العالم بالبيانات القلقة.. لم يصدر موقف أممي يصف ما يحدث بأنه إبادة جماعية، رغم وضوح النمط العرقي في الانتهاكات. أما القوى الكبرى فاختارت سياسة “التكافؤ” بين الجيش والدعم السريع، وهو تكافؤ زائف يساوي بين الجلاد والضحية ويعطل العدالة.

والأدهى أن بعض الدول المتهمة بتمويل الحرب نفسها ترعى اليوم مبادرات “سلام” شكلية، بينما الجثث ما تزال في شوارع الفاشر.

ليست مأساة السودان في انفجار الحرب، بل في اعتياد العالم عليها.. من دارفور إلى الفاشر، تتكرر الجريمة نفسها، والعالم يراقب بصمت يشبه التواطؤ

السودان.. وطن يبتلعه السلاح

لم تعد الحرب في السودان صراعا على الحكم، بل على معنى الدولة نفسها؛ إذ تحولت قوات الدعم السريع إلى كيان سياسي-اقتصادي مسلح، قادر على تمويل نفسه والتحالف مع الخارج من دون الحاجة إلى دولة. ومع كل يوم يمر، يتآكل ما تبقى من السودان الذي كان يُعرف بثرائه الزراعي وثقافته المتنوعة، ليصبح مرادفا للجوع والنزوح والموت البطيء.

في النهاية، ليست مأساة السودان في انفجار الحرب، بل في اعتياد العالم عليها.. من دارفور إلى الفاشر، تتكرر الجريمة نفسها، والعالم يراقب بصمت يشبه التواطؤ.

لم تعد الأسئلة حول “من بدأ الحرب؟” بل: من المستفيد من استمرارها؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here