أفريقيا برس – الجزائر. ما كشفته منظمة مراسلون بلا حدود، أخيرا، عن شخصيات بارزة موالية للسلطة في مصر، تساعد في إطلاق حملات تشهير ضد صحافيين ناقدين للسلطة لا ينحصر فقط بالجغرافيا المصرية. يكشف هذا الجانب المهم للمنظمة المعنيّة بحماية الصحافيين الوجه الآخر من بيئة إعلامية عربية، تحتوي الكثير من جوانب الكراهية، والتحريض على العنف والتواطؤ والتشهير، والتلوث الإعلامي. مسألة تطرح إشكالية أن يؤكّد الإعلام بنفسه على مسؤوليته فاعلا، أم يكتفي بدوره الكلاسيكي بوصفه مراقبا نزيها وموضوعيا، أم عاملا مضلّلا ومحرّضا في الأزمات؟ ويتعلق الأمر بسلوكيات مهنية، تتسبب، وفق المنظمة، باعتقال صحافيين وسجنهم، وتصاعد الحملات على حرية عمل الصحافة. والمسألة هنا ترتبط بطبيعة النظام الذي يعمل الإعلام في ظله، في مصر، كما في تونس والمغرب والجزائر ولبنان والعراق والبحرين وإيران، وفي الدول التي تعاني أزمات، ناهيك عن ممارسات الاحتلال الاسرائيلي وعدوانيته اليومية، في وجه المراسلين الفلسطينيين والأجانب.
هل صار الإعلام في خضم التحولات والأحداث المعقدة ضحية كبرى، وأداة تسويقية وشرعية في أيدي قوى مركّبة ومتداخلة؟ ما عرضت له المنظمة يطرح تساؤلات وشكوكا حول إذا ما زال الإعلام يلعب دورا في قطاعاتٍ أساسية في المجتمع، وفي الإطار الديمقراطي، سيما في مسألة توسيع مدى الحرية، إلى شؤون أخرى يزاولها، كمساهمته في تعزيز حقوق الإنسان والمرأة، وحماية البيئة، والحد من الفقر، ونبذ الطغيان. وتكشف مناقشة هذا الجانب كثيرا من نواحي الاستيعاب والخروج على الأسس المهنية ومبادئها. وهنا أدخلت في مصر، موضوع التقرير، معالجة مسألة “العوامل الوطنية”، والسياسية، وما يتعلق بالحريات العامة والقضاء، فتصل المسألة إلى المصلحة العليا. إنه تهديد القطبية السياسية المهيمنة، عندما تخترقها أصوات هامشية، فالإعلام الذي تماهى بالعولمة ينتج مسائل متعدّدة ومتناقضة. وقد يمثل النصر الحقيقي في مكان ما في القرن العشرين، نعني الصحافة المرتبطة بالسياسة، الخدمة المرتبطة بالاقتصاد، من دون إغفال الإعلام العلائقي الذي تمثله شبكات التواصل الاجتماعي. ولكن كيف ومع من يمكن أن تفرض الميديا مسؤوليتها الاجتماعية والسياسية في التحولات وفي مواجهة الأخطار، بدل أن تكون عناصر لا متوازية، ومجرّد أدوات تسويقية/استهلاكية، تحريضية على العنف والجريمة؟
من الواضح أن الإعلاميين أعادوا إحياء أدوارهم، وتحولوا وسطاء في المواطنة. ولكن هذا يظهر التواطؤ بين الإعلام والسلطة، فالصناعة الإعلامية (كما دولة الحداثة)، متأخرة. ويجب أن يطرح سؤال الفاعلين، بوضوح، على زملاء المهنة، على أولئك الذين يؤخرون، أو يوقفون الحلول، وبالإشارة بالأصبع إلى فاعلين يؤيدون فتاوى قتل كتّاب الرأي الآخر أو اعتقالهم أو سجنهم، أو يؤيدون التهديدات بالقتل والاغتصاب، أو ينظرون مدافعين عن فصول من الإبادات الإنسانية في مناطق القتال، أو أولئك الذين يجعلون ممارسة المهنة أخلاقيا في التصدّي للجرائم المرتكبة ضد المرأة أمرا مستحيلا (سلمى بهجت، لبنى منصور، نيرة أشرف، إيمان جمال)، الى جرائم الشرف الكثيرة في المجتمعات ذات الطبيعة القبلية.
حسنا فعلت منظمة مراسلون بلا حدود، في إضاءتها على ما يجري في نطاق عمل الإعلام، إذ يواجه أزمة وظيفة. لقد أغرقته الرقابة السياسية في قضايا محلية، لا تشبه إطلاقا أصول الإعلام. المهنة التي يعوّل عليها الكثير في التغيير، وتمثل روح التمرّد والحرية والعقلانية، تسودها الصور السيئة، وفقد معها الإعلام شخصيته المستقلة، خصوصيته المرتبطة برؤية مثالية للمجتمعات الحديثة نتيجة أساليب الضغط، وفقدان الأمن الذاتي، وما يوازي الحديث الأخطر، وهو شهد إغراقا موصوفا في وظائف تسويقية وترويجية، تفقده الصلة بين آليات العمل والمقاصد، فتتحوّل المهنة صناعة فوضى مجتمعات ناشئة. وهذا قد يفسّر تعثر التحولات والانهيارات.
تحوّل الإعلام إلى واحدةٍ من قصص المجتمعات الغامضة والتوتاليتارية، لا سيما حين يتخلّى عن دوره في إحداث خروق، والتفتيش عن حلول لمجمل قضايا المواطنين. فقد الصحافيون أكثر وأكثر السلوكيات التي يصنعون من خلالها مشروعية دورهم في المجتمع، ومعنى عملهم في غياب النقابات الصحافية المستقلة (بيار بورديو). انقضّ بعض الإعلاميين على أدوارهم وأنفسهم. صار الواحد منهم مجرّد نسخة عن السياسي أو النظام الذي يمثله. يمثل هؤلاء أداة قهر لزملائهم، أو يمثلون مصالح جماعات فئوية على حساب قضايا أوطانهم الأساسية.
تصطدم سلطة الإعلام بعقبتين: تتعلق الأولى بالتواصل مع الآخر، والثانية بطبيعة المجتمعات السائلة الاستهلاكية، والضحية في الحالتين هي الحقيقة التي يجري التلاعب بها. أليس ما هو أكثر سذاجة وخطورة الظن أن المواطن سوف يصبح غدا صحافيا بذاته، بفضل أنظمة شبكات التواصل الاجتماعية المفتوحة، ما يبطل وجود شرعة حقوق المهنة وأخلاقياتها ومهنيتها، فإنقاذ المهنة يكون بالمصادقة على دورها، وإمكانية انتقادها (دومنيك فولتون). ليس الصحافي صديق المواطن، ولا صديق السلطة، ولا صديق القاضي. عليه الكفاح بوجه السلطات وبوجه المتلقي أيضا، وإلا صار المجتمع غير متماسك، ويستبدّ به أي حدث، فيتحدّث الجميع اللغة نفسها. ولا بد من الحذر، فنموذج ديمقراطية الرأي تعايشي، واليوم صار أكثر تعدّدية. وإدارة الغيرية تعني حقوقا وواجبات متبادلة وتسامحا، والوقوف في صف النموذج الديمقراطي، وليس في صف السلطة. وأن يوصَف هذا النموذج هنا بأنه تعايشي لا يعني تسيير الأمور بمنطقين متناقضين.
لم يعد الإعلام وسيلة فقط، بل صار وسيلة من ضمن المعركة، حلّ محل العنف بالسلاح، حلّ محل الثقافة القديمة، صار الرفيق الأول للاحتجاجات، والخصم لأنظمة الاستبداد. ثم الإعلام سلطة غير منتخبة، ومع ذلك حلّ محلّ البرلمانات. يأخذ نموذج التعايش الرهانات المعيارية لتنظيم المجتمعات، ولا معنى له إلا بوصفه ورشة ديمقراطية وسلمية، ومنتجا حضاريا في العالم. لا عنف، لا سجون، أو اعتقالات (إشارة منظمة العفو الدولية)، ولا دور كلاسيكيا ملحقا لأنظمة قديمة. ثم ليس هو المؤثر الأساسي، بل هو موضع تأثير بوجهه الوظيفي. مع ذلك، من مهمة الإعلاميين البحث عن فكرة أن يكون العالم أفضل، شرط أن يكون الإعلاميون أكثر من مجرد مراقبين متواطئين. ثمّ ما معنى صناعة إعلام وتقديم نظرات متقابلة ومتضاربة، إذا لم يكن الهدف هو خدمة الدولة الوطنية؟
يُخشى أن يفقد الإعلام تمايزاته وخصوصياته، وتلغى الفوارق، وتذهب الأمور إلى منحى أحادي. والخشية أن يتساوى الإعلام الحر والمستقل مع غيره من الإعلام. إذن، التحدّي كيف نستطيع أن نترك مساحة بين الإعلام ومراكز القوى (وامتداداتها)، ليبقى الإعلام ضمن التعدّدية الديمقراطية، وضميرا مؤسّسا لحقوق الإنسان والشعوب.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس