لماذا الاعتذار إلى رواندا وليس إلى الجزائر؟

9
لماذا الاعتذار إلى رواندا وليس إلى الجزائر؟
لماذا الاعتذار إلى رواندا وليس إلى الجزائر؟

افريقيا برسالجزائر. “وحدهم الذين عبَروا الليل يُمكنهم ربّما أن يغفروا لنا”، بهذا الاستجداء استهلّ الرئيس إيمانويل ماكرون خطابه أمام الرّوانديّين نهاية الأسبوع، مُعلنا الاعتراف بمسؤولية بلاده عن الإبادة الجماعية، حتّى أنّ الرئيس بول كاغامي وصف التصريح بأنه “أهمّ من الاعتذار”.

وجاء ذلك بالتزامن مع اعتراف ألمانيا رسميا بجرائمها قبل أكثر من 100 سنة بحق شعبيْ هيريرو وناما في ناميبيا، بل قررت الاعتذار ودفع الأموال، تكفيرا عن ذنبها التاريخي.

موقف ماكرون أمام رواندا يعني أن باريس تنازلت، من أجل مصالحها الضائعة، عن العنجهية الاستعمارية التي طالما واجهت بها بلدان القارّة، بشأن تسوية الذاكرة المجروحة، وإلاّ كيف يمكن تفسير التعاطي المزدوج لفرنسا مع كيغالي والجزائر، مع أنه لا مجال للمقارنة بين تورّطها المحدود مع الأولى ومسؤوليتها الكاملة في الثانية.

وبالأرقام، فإنّ باريس “تعتذر” اليوم، بل تطلب الصفح عن مشاركتها في حرب أهلية دامت سنتيْن فقط، مخلفةً 800 ألف قتيل، بينما تغضّ الطرف عن عشرة ملايين شهيد جزائري أبادتهم بنفسها منذ الاحتلال في 1830، مرورا بالثورات والانتفاضات إلى غاية الاستقلال، وفق شهادة المؤرخ الفرنسي، جاك جوركي، فضلا عن آثار الدمار الاستيطاني المروِّع على الهوية والأرض والبيئة ونهب الثروات الطائلة واستغلال كل شيء في الجزائر.

والجواب نطق به مؤرخٌ فرنسي آخر، هو ترامور كيمينور بقوله: “سيكون من السذاجة اعتقاد عدم وجود اعتبار اقتصادي لزيارة ماكرون إلى رواندا، فالاعتراف ليس غرضَها الوحيد”، لأنّ فرنسا تُسابق الزمن بكل ما هو ممكنٌ لمواجهة العملاق الصيني في إفريقيا.

عندما نعود إلى مؤشرات قصة النجاح، والتي حوّلت دولة صغيرة أنهكتها الحرب والمذابح، لا تمتلك ثروات معدنية، ولا منفذا على البحر، خرجت من أكبر احترابٍ عرقي في التاريخ المعاصر، إلى نموذج معجزة اقتصادية في العالم، حينها سندرك لماذا تطأطئ باريس اليوم رأسها انحناءً وتواضعًا أمام رواندا، بتعبير ساكن الإليزي نفسه.

لقد تمكنت في ظرف سنوات معدودة، وفق “الرؤية الشاملة 2020” التي رسمها الزعيم بول كاغامي، من صناعة الاستثناء، ليرتفع متوسط دخل الفرد عام 2015 إلى 30 ضعفا عما كان عليه قبل الحرب، حتى بات الاقتصاد الرواندي الأسرع نموًّا في إفريقيا، بعدما بلغ معدّلُه 7.5 في المائة عام 2005 كأعلى معدّل عالمي، كما تصدّرت سنة 2016 ترتيب الدول الإفريقية الأكثر جذبًا لرجال الأعمال، قبل التتويج بإطلاق أول قمر اصطناعي رواندي للاتصالات.

لكنّ هذه المكاسب النوعيّة لم تكن وليدة الصدفة ولا الفراغ، بل هي حصاد رؤية وطنية جادة وتخطيط علمي دقيق، وضع أسسَه الصلبة الرئيس كاغامي عند استلامه السلطة من سلفه بيزي مونجو، إذ حدّد هدفين رئيسين هما: توحيد الشعب وانتشاله من الفقر.

ولتنفيذ خطته، قدّم الرجل أولوية المصالحة المجتمعية، وأقرّ دستورا عصريّا يضمن حقوق الإنسان والتداول على السلطة، ثمّ ألغى الاعتماد على اللغة الفرنسية، معتمدا الإنجليزية لغةً للمعاملات الرسمية في المؤسسات الحكومية، وغيرها من الإجراءات المتصلة بتحريك عجلة التنمية، أي أنه كرّس مفهوم سيادة الدولة الرواندية عمليّا بإنهاء الهيمنة الثقافية واللغوية والماديّة للمستعمِر القديم.

وإذا كانت الجزائر اليوم جادة، سلطةً وشعبًا، في إخضاع فرنسا للاعتراف والاعتذار وحتى التعويض، مثلما صرَّح الناطق باسم الحكومة مؤخرا، فما عليها سوى أن تسلك ذات المسار الروّاندي المُلهم، بإعادة التأسيس لدولة قوية مؤسساتيّا، بارتكازها على الشرعية السياسية الانتخابية، وثقافيّا بتحريرها من الهيمنة الفرنسية المكبِّلة للإرادة الوطنية، واقتصاديّا بالتخلّص من التبعية للموارد الطبيعية وبناء نموذج عصري متوازن ومتنوِّع الواردات.

ولن يتأتّى ذلك دون توافق واسع بمشاركة كافة الجزائريين وتعاون بينهم، من أجل تجسيد الانتقال الديمقراطي الفعلي، في كنف جزائر جديدة قِوامها الإصلاحات والحريات والمبادرات والإبداعات، تكون مفتوحة أمام كل أبنائها وطاقاتها في كل مكان، دون تمييز ولا إقصاء، حينها ستتهيّأ الظروف المُحفِّزة لتتفتّق العبقرية الجزائرية عن المواهب والمعجزات، وبلادنا تملك أنْفسَ المقومات البشرية النوعية والطبيعية الثمينة والرصيد الروحي التاريخي للإقلاع على درب النموّ والازدهار.

ليس قدر الشعب الجزائري أن يظل بطل الثورات والحروب في دحر الغزاة على مرّ العصور، دون أن يُحسن البناء والتشييد في عهد الاستقلال والاستقرار، بل هو أدْعى للنجاح والإنجاز، وقد ضاع منه وقتٌ طويل وحان أوان صحوة الضمير.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here