ماكرون المتأرجح بين تاريخ الذاكرة الأليم وجغرافيا الطاقة الجزائرية

15
ماكرون المتأرجح بين تاريخ الذاكرة الأليم وجغرافيا الطاقة الجزائرية
ماكرون المتأرجح بين تاريخ الذاكرة الأليم وجغرافيا الطاقة الجزائرية

لطفي العبيدي

أفريقيا برس – الجزائر. يتصدر ملف الطاقة وإمكانية زيادة إمدادات الغاز نحو فرنسا أجندة زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر، في ظل مساعي أوروبا لخفض اعتمادها على الغاز الروسي. المستشار الألماني يتوجه نحو كندا، في محاولة لعقد اتفاق لتوريد الغاز المسال. وماكرون يأتي إلى الجزائر للسبب ذاته، بعد أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا، بسبب نقص إمدادات الغاز الروسي، ومحاولات دول الاتحاد، خاصة فرنسا وألمانيا الدفع نحو الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية، على نحو تماهيها مع منطق العقوبات التي فُرِضت على موسكو بضغط أمريكي.

تورطت أوروبا في أزمة لم تكن في حسبانها، وبدا واضحا أنّها تتخبط لإيجاد حلول تبدو بعيدة المنال، إطلاق ديناميكية تدفع إلى التقدم في معالجة الـملفات الكبرى، على غرار الذاكرة والعلاقات الإنسانية، والمشاورات السياسية، والاستشراف الاستراتيجي، والتعاون الاقتصادي، هي محور دعوة الرئيس تبون نظيره الفرنسي لزيارة الجزائر، بشرط أن تنطلق هذه الشراكة من احترام السيادة، وتوازن المصالح.

في ذلك إشارة واضحة لتقاطع المصالح وتشابكها زمن تغير التحالفات، الذي يفرض على كل من الجزائر وباريس، إعادة ترتيب علاقاتهما، بشرط تحكيم العقل السياسي، وتجنب أي تصريحات مسيئة للجزائر، كتلك التي أدلى بها الرئيس الفرنسي بشأن تاريخ الأمة الجزائرية، وأدّت إلى خلاف دبلوماسي، أعرب على اثره ماكرون عن «أسفه» للجدل الذي أثارته تصريحاته، في مسعى لاحتواء الأزمة. كانت عبارات حماسية غير مسؤولة بالتأكيد، لا يمكن فصلها عن الحملة الانتخابية الفرنسية المسبقة، التي حاول فيها ماكرون استمالة اليمين المتطرف إلى صفه. وبعد فوزه بولاية رئاسية ثانية غير قابلة للتجديد. هو اليوم قد تحرّر من الضغوط الانتخابية، وضغط لوبي اليمين المتطرف تحديدا، وبالتالي تطمح الجزائر إلى أن يتخذ ماكرون خلال ولايته الثانية خطوات أكثر جدية في ملف الذاكرة المشتركة، خاصة أنّه اكتفى في ولايته الأولى ببضع خطوات رمزية، على غرار فتح جزئي للأرشيف الجزائري في الحقبة الاستعمارية، وإدانته «لجرائم لا مبرر لها للجمهورية» عند إحيائه الذكرى الستين لقتل الشرطة الفرنسية متظاهرين جزائريين في باريس في 17 أكتوبر 1961. زيارة ماكرون الثانية للجزائر، ستكون محاولة لطيّ صفحة الأزمة التي أشعلتها تصريحاته في أكتوبر 2021، والتي اتهم فيها النظام السياسي الجزائري بأنه «يستقوي بريع الذاكرة»، مشكّكا في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي. وحتما، زادت هذه التصريحات في تمسك الجزائر بتسوية ملف الذاكرة، كاشفة أنّ ذكريات الاحتلال الذي استمر 132 عاما، ما زالت تخيّم على علاقات الجزائر مع فرنسا.

فصل آخر من العلاقات الجزائرية الفرنسية المتعلق بالشأن الاقتصادي، سيفتح من جديد بهذه المناسبة، لدراسة سبل التعاون، خاصة في الشق المتعلق بالاستثمارات الفرنسية، والتعامل في مجال الطاقة، فالاستثمارات الفرنسية في الجزائر تراجعت كثيرا في السنوات الأخيرة لصالح قوى اقتصادية أخرى، منها الصين وتركيا وإيطاليا. القضايا الدولية عامة والأزمات الإقليمية على غرار الملف الليبي، والأوضاع الأمنية في الساحل، خاصة أزمة مالي وتطوراتها الأخيرة، ستشكل محورا رئيسيا في المحادثات الفرنسية الجزائرية، نظرا للدور الفرنسي في هذا البلد الافريقي، والأزمة الدبلوماسية بين باماكو وباريس بخصوص الوجود الفرنسي في مالي، واتهامها بدعم مجموعات مقاتلة ضد الجيش المالي، تعمل على تخريب البلاد، ونشر الفوضى ومنع استقراره. وتأمل باريس التي تعاني عسكريا في مالي وتشاد والنيجر، وحتى في بوركينا فاسو وساحل العاج، في مواجهة التنظيمات المتطرفة والإرهابية، وتحتاج للمزيد من دعم دول جوار الساحل والصحراء، أن تتوسط الجزائر في هذه الملفات، لدورها المهم، وتأثيرها الوازن في محيطها الحيوي، الذي يتقاطع مع مناطق النفوذ الفرنسي القديم.

مشروع «ميدكات» الذي كان يهدف لنقل الغاز من الجزائر إلى وسط أوروبا عبر إسبانيا. على درجة كبيرة من الأهمية هو الآخر، وقد يحمل الرئيس الفرنسي مساعي أوروبية لإحياء خط أنابيب الغاز هذا، الذي تم إطلاقه في عام 2013، وجرى التخلي عنه في 2019 بسبب الخلافات بين مدريد وباريس حول تمويله. هذا المشروع يبقى مشروطا بنجاح الوساطة الفرنسية لتسوية الخلافات الدبلوماسية بين الجزائر وإسبانيا والمغرب حول قضية الصحراء، الإقليم المتنازع عليه بين الرباط وجبهة البوليساريو، التي تحظى بدعم جزائري، وترفض مبادرة الحكم الذاتي، وتدعو إلى إجراء استفتاء لتقرير المصير تحت إشراف الأمم المتحدة. وقد زاد إعلان الحكومة الإسبانية دعم مبادرة المغرب للحكم الذاتي تحت سيادتها في إقليم الصحراء تأجيج الوضع، وأثار احتجاج الجزائر التي استدعت سفيرها بإسبانيا في مارس 2022 للتشاور. هذا التوتر استفادت منه إيطاليا، التي وقّعت مع الجزائر اتفاقا لرفع حجم صادراتها من 21 مليار متر مكعب غاز سنويا، إلى 30 مليار متر مكعب في آفاق 2023 – 2024. خطوة أثارت اهتمام فرنسا التي سارعت بإرسال وزير خارجيتها لودريان إلى الجزائر، في 14 إبريل الماضي، لضمان حصتها من الغاز الجزائري. وقد تكون الأزمة الإسبانية الجزائرية، عجّلت بشكل أو بآخر في تجاوز الخلاف الجزائري الفرنسي، وإن كان في عنوانه الظاهر، تبديد التوترات التي تزعزع استقرار غرب البحر الأبيض المتوسط، وتقلق الاتحاد الأوروبي بشكل خاص، فهو في عمقه مصلحة جيوسياسية واقتصادية مع بلد يمتلك احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، وفي سياق الأزمة بين حلف الناتو وروسيا، ومحاولات دول أوروبية تعويض نقص الإمدادات، تكون الجزائر حتما محور اهتمام الاتحاد الأوروبي في جهوده لخفض الواردات من روسيا، وهي واحدة من أهم الوجهات المحتملة لاستيراد الغاز الذي تحتاجه أوروبا لسد احتياجاتها قبل حلول الشتاء. كلا البلدين شهدا حراكا احتجاجيا بعناوين سياسية واجتماعية، قد يكون تلاشى بسبب أزمة كورونا، وتطور الأحداث العالمية التي أفرزت تعدّدا للأقطاب، تدرك فرنسا جيدا أنّ الجزائر هي أقرب من أي وقت سابق إلى المحور الروسي الصيني، وهي تعمل في سياق هذا التحول العالمي، على تقوية العلاقات الاستراتيجية مع موسكو وبكين، إضافة إلى أنقرة، وتبني شراكات مع دول من داخل الاتحاد الأوروبي كألمانيا وإيطاليا وحتى إسبانيا، لكنها كأي بلد تبحث عن صفقات اقتصادية مربحة، ولديها مصالح تجارية، وبالتالي ما يعني باريس في هذه المرحلة، هو إيجاد توافقات ثنائية لتوفير مصادر طاقة بديلة، لأجل ذلك يمكن أن تلتزم الحياد في الخلاف بين الجزائر والمغرب حول قضية الصحراء، وستحل موضوع التأشيرات، إضافة إلى الكفّ عن إشعال نار الخلافات بالساحل الافريقي. وسيكون ماكرون حريصا في تصريحاته، معتبرا من الأزمة الدبلوماسية السابقة، لكن سيبقى ملف الذاكرة ثقيل الخطى، ومسألة الاعتذار عن جرائم الماضي الاستعماري، والمرحلة غير المشرفة من تاريخ فرنسا، لو كانت كلمة لقالها، لكن تبعاتها تجعل منها مسألة تتجاوز شخص الرئيس، إلى دوائر صنع القرار والدولة العميقة، ومؤسساتها التي يتجاذبها الانقسام الأيديولوجي، وتنامي حضور اليمين المتطرف. وهي تتطلب شجاعة كافية، وشعبية وازنة في الداخل الفرنسي للمضي فيها، وجميعها عناصر لا تتوفّر لدى الرئيس ماكرون، بمعنى آخر هو لا يملك صلاحيات اتخاذ مثل هذا القرار.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here