استراتيجية الإمارات لمحاصرة الجزائر

1
استراتيجية الإمارات لمحاصرة الجزائر
استراتيجية الإمارات لمحاصرة الجزائر

أفريقيا برس – الجزائر. في واجهة المشهد، ثمة أزمة غير مسبوقة تعصف بالعلاقات الجزائرية الإماراتية بسبب تصريحات مؤرخ جزائري في برنامج تلفزيوني على قناة مملوكة للإمارات. لكن في خلفية المشهد تبدو القضية أكبر مما يُعتَقد، والبرنامج التلفزيوني إياه وما تلاه من ردود فعل جزائرية عنيفة لم يكونا سوى الشرارة التي أطلقت العنان لتنفيذ خطة إعادة رسم التحالفات في منطقة الساحل وشمال أفريقيا، من الواضح أنها معدة سلفا وكانت تنتظر فقط المبرر لإطلاقها علانية. لعل من أبرز تجلياتها تحركات مثيرة للقلق للدولة الخليجية في منطقة الساحل، التي تشكل عمقا استراتيجيا للجزائر..

فما الذي يجري حقيقة خلف الكواليس، بين الجزائر العاصمة وأبو ظبي؟

في مطلع مايو 2025، استضافت قناة سكاي نيوز عربية المملوكة للإمارات المؤرخ الجزائري محمد أمين بلغيث ليعلن أن الهوية الأمازيغية “مشروع صهيوني فرنسي”. هذا الإعلان الذي لم يكن الأول للمؤرخ المثير للجدل، رآه البعض في الجزائر مرتبا له في أبوظبي بغاية خبيثة. وعلى الفور، أتى الرد من التلفزيون الجزائري العمومي في نشرة الأخبار الرئيسية، بوصف الإمارات بـ “الدويلة المصطنعة التي تحولت إلى مصنع لإنتاج الشر والفتنة، وعادت هذه المرة عبر إحدى قنواتها اللقيطة لتنفث شكلا جديدا من السموم والوساخة والعفن والوقاحة وسط الجزائريين”.

واتهمت الجزائر أبوظبي بإشعال الفتنة من خلال ذلك الحوار بتأليب الجزائريين ضد بعضهم البعض واعتبرت التوقيت مدروسا. فهو يتزامن في الواقع مع الذكرى 45 لأحداث “الربيع البربري” (20 أبريل 1980)، والذكرى 24 لأحداث القبائل أو ما يعرف بـ “الربيع الأسود”، وذلك على خلفية المطالبة بالحقوق الثقافية واللغوية للأمازيغ في الجزائر، وهي أحداث دامية سقط فيها مئات الضحايا في 20 أبريل 2001.

وأودع المؤرخ بلغيث بعد ذلك الحوار السجن، في رسالة واضحة إلى حجم “الجرم” الذي ارتكبه بحق الهوية الأمازيغية بحسب الحكومة الجزائرية، وكنوع من التهديد لمن سيتحدث على أي قنوات إماراتية. ولم تصدر مواقف رسمية عن أبو ظبي، بينما اعتبرت دوائر مقربة من الإمارات ردود الفعل الجزائرية بـ “الخارجة عن اللياقة الدبلوماسية والمسيئة”، والتي “تستند على أوهام وتصورات مغلوطة”.

إن هذا التلاسن الإعلامي، الذي ليس الأول من نوعه بين البلدين وعكس الموقف الجزائري الرسمي، هو مجرد فصل من تاريخ التوتر الجزائري الإماراتي في عهد الرئيس عبد المجيد تبون. وبالنظر إلى التطورات التي لاحقته والتي ما تزال في بدايتها، فإنه ─بالتأكيد─ لن يكون الأخير…

تطويق الجزائر في الساحل

على مدى عقود طويلة، مارست الجزائر نفوذا سياسيا في منطقة الساحل، معتمدة في ذلك على روابطها التاريخية مع حركات التحرير الأفريقية وعلى دبلوماسية “عدم الانحياز”. لكن هذا النفوذ الإقليمي بات يتصادم بشكل مباشر مع الطموح الإماراتي للتوسع نحو أفريقيا جنوب الصحراء. ولذلك يهدف الاحتواء الإماراتي القائم حاليا إلى قطع أواصر هذا الارتباط الجغرافي والسياسي، بين الجزائر وحلفائها الساحليين التقليديين. وذلك من خلال فرض أبو ظبي نفسها كشريك مُفضل للنخب العسكرية الجديدة الحاكمة في دول الساحل.

وفي هذا الإطار، كشفت الجولة الدبلوماسية للشيخ شخبوط بن نهيان آل نهيان (عضو مجلس الوزراء ووزير دولة بوزارة الخارجية الإماراتية) للعواصم الثلاث لدول تحالف الساحل، الأسبوع الماضي، والتي تلتها الزيارة الاستراتيجية لرئيس أركان القوت البرية لحكومة شرق ليبيا الفريق صدام حفتر، الخميس 22 مايو الماضي إلى النيجر، عن شروع دولة الإمارات العربية المتحدة في تنفيذ استراتيجية احتواء تستهدف الجزائر بشكل صريح. إن هذا التسلسل في الزيارات ليس صدفة، حيث يحل حفتر الابن بالمنطقة مباشرة بعد جولة الشيخ شخبوط، مما يشير إلى تنسيق استراتيجي قائم بين الإمارات وما يعرف بالجيش الوطني الليبي. وتقوم هذه البنية الجيوسياسية الجديدة حول محور جديد تمتد أضلاعه بين العواصم الأربع: بنغازي-نيامي-باماكو-واغادوغو. وهو ما يشكل عمليا تطويقا منهجيا للنفوذ الجزائري في منطقة الساحل والصحراء الكبرى. وتستغل الإمارات في ذلك الفراغ الجيوسياسي الذي تركه الانسحاب الغربي من منطقة الساحل لإقامة طوق أمني حول الجزائر، عماده بالأساس هو الدبلوماسية الاقتصادية والتعاون الأمني/العسكري.

لقد جسدت جولة الشيخ شخبوط للعواصم الثلاث لتحالف دول الساحل تقاربا في المصالح الاستراتيجية، حيث تقدم الإمارات للمجالس العسكرية الحاكمة في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو ما لا يمكن لأي قوة أخرى ضمانه: دعما سياسيا غير مشروط ومن دون مطالبات ديمقراطية مقترنا باستثمارات سخية ودعم أمني ملموس. ففي مالي، يندرج تمديد بروتوكول الدفاع لعام 2019 ومشاريع الاستثمار في الطاقة الشمسية (محطة تونا بطاقة إنتاج تبلغ 93 ميغاواط) في منطق الشراكة المستدامة. وفي النيجر، تهدف المفاوضات حول التنمية التعدينية والطاقية إلى تأمين إمداد الإمارات باليورانيوم والمعادن النادرة. أما في بوركينا فاسو، فرغم كون زيارة شخبوط الأكثر تكتما، فتشير تقارير استخباراتية غربية إلى أن اتفاقيات التعاون الاقتصادي التي جرى توقيعها، تعزز السيطرة الإماراتية على قطاعات الزراعة والبنية التحتية في بوركينافاسو.

تطويق الجزائر من الشرق

وفقا لقراءة مراكز تحليل غربية، تكشف زيارة الفريق صدام حفتر إلى النيجر، والتي توجت بـ “تكريمه” رسميا، البُعد العسكري للاحتواء الإماراتي. فالاتفاقيات الأمنية المبرمة بينه وبين رئيس النيجر الجنرال عبد الرحمن تشياني، تتعلق بـ “مراقبة الحدود” و”مكافحة الإرهاب”، وخاصة الاستيلاء المحتمل من قبل الجيش الليبي على القاعدة الفرنسية السابقة في ماداما (تقع بشمال النيجر على الحدود مع تشاد وليبيا)؛ بحيث يُنتظر أن تشكل هذه المنشأة الاستراتيجية، في مستقبل قريب، قاعدة متقدمة للعمليات العابرة للحدود، مُكملة بذلك تطويق الجزائر من الجنوب. وتمثل هذه الترتيبات ضمن ما تمثله تهديدا كبيرا مباشرا وأكيدا للأمن القومي الجزائري.

لتوضيح أسباب ذلك، وجب التذكير بأنه قبل نحو عام، قامت قوات تابعة للجيش الليبي بقيادة الفريق صدام حفتر نفسه، بالهجوم على المناطق الغربية والجنوبية الليبية الحدودية مع الجزائر والنيجر، خاصة “ممر السلفادور”. وهي منطقة صحراوية تصل مساحتها إلى 32 ألف كيلومتر مربع، أي أنها أكبر من مساحة دولة مثل بلجيكا، وتقع بين الدول الثلاث، وتمر عبرها مختلف أنواع التهريب والمهاجرين والجهاديين نحو دول المنطقة. وأعلنت قوات حفتر ─حينها─ أن هدفها كان هو “استرجاع” هذا المثلث الحدودي الاستراتيجي الذي تعتبره “مُحتلا”.

بعد ذلك، وإلى الشمال قليلا، استهدف هجوم نجل حفتر أيضا مدينة غدامس القريبة من الحدود الجزائرية (بشكل خاص مطارها الاستراتيجي والمنطقة النفطية والغازية التابعة لها)، التي تقع على بعد 650 كيلومترا جنوب غرب طرابلس. وبالنسبة إلى العديد من المراقبين، فإن تحرك قوات الجيش الليبي من الشرق لا يمكن أن يكون في الواقع سوى محاولة جديدة للاستيلاء على العاصمة طرابلس – مقر حكومة الوفاق الوطني التي لا تعترف بسلطة المشير خليفة حفتر- من الجنوب.

والمعروف لكل مراقب للوضع الليبي، أن قوات المشير حفتر تحاول منذ عدة سنوات الوصول إلى مطار غدامس والمناطق المحيطة به، بدعم من مصر وروسيا والإمارات. والسبب في ذلك أن السيطرة عليه من شأنها أن تعزز بشكل كبير الوضع الإقليمي لحفتر في مواجهة كل من الجزائر وتونس. وبذلك يصبح معسكر شرق ليبيا مسيطرا على الجنوب بأكمله [إقليم فزان] من شرقه إلى غربه.

والمعروف أيضا أن الجزائر تخشى، في سياق ذلك، من التعرض لضغوط على حدودها الحساسة للغاية، التي تقع بالقرب من منشآتها الطاقية الاستراتيجية على وجه الخصوص. فذكرى الهجوم الدموي على موقع غاز تيقنتورين في عام 2013 ما تزال حاضرة بقوة في أذهان المسؤولين الجزائريين، الذين يخشون تكراره.

والحال أن حلفاء الرجل القوي في الشرق الليبي، لا سيما الإمارات العربية المتحدة، في حالة قطيعة دبلوماسية مع الجزائر حاليا. أما بالنسبة لروسيا، فإن الجزائر لا تريد وجود مرتزقة مثل “فاغنر” أو “الفيلق الأفريقي” على حدودها الشرقية، كما هو الحال بالفعل في شمال مالي (حدود الجزائر الجنوبية). ومع ذلك، فإن وجود جيش حفتر على حدودها يعني بالضرورة وجود هؤلاء المرتزقة. وعلاوة على ذلك، فإن صدام حفتر سبق أن قام بزيارتين على الأقل إلى الكيان الإسرائيلي التي تتهمها الجزائر بدعم أعدائها.

في عام 2018، هدد حفتر الجزائريين صراحة بنقل الحرب “من الشرق إلى الغرب [أي إلى الجزائر] في وقت قصير”، فرد عليه الرئيس تبون بأنه “لا أحد يستطيع تهديد الجزائر”. وفي عام 2019، خلال الهجوم الثاني للمشير على طرابلس، فكرت الجزائر في التدخل في ليبيا، لأن “طرابلس خط أحمر”، كما كشف الرئيس عبد المجيد تبون لقناة الجزيرة في عام 2021.

وفي عام 2021 كذلك، أعلن المشير خليفة حفتر المناطق الحدودية مع الجزائر “مناطق عسكرية مغلقة”. ومنذ الصيف الماضي (2024)، شرع في توسيع نفوذه نحو الغرب والجنوب، أي إلى الحدود مع الجزائر والنيجر، وشرع في اتصالات معمقة للغاية مع قادة النيجر من أجل تثبيت قبضته على جنوب ليبيا بشكل كامل. ويبدو أن المستجدات الأخيرة تلبي تطلعاته تلك…

تطويق الجزائر من الغرب

تتهم الجزائر أبوظبي بلعب دور غير بريء في شمال أفريقيا والصحراء الغربية وتنظر بعين الريبة إلى التقارب بين الرباط وأبوظبي، وهو تقارب مثمر ومتين آخر ثماره صفقة ضخمة بقيمة 14 مليار دولار، تمول بموجبها بشراكة مع أطراف عمومية وخاصة مغربية الجزء الأكبر من مشاريع لإنتاج الكهرباء من مصادر متجددة وتحلية مياه البحر. وقبلها استثمرت الإمارات 100 مليون دولار، في مشاريع بالمغرب لصناعة الأدوية ونقل التكنولوجيا، وسط حديث عن عزم أبوظبي تسليم المغرب العشرات من مقاتلات ميراج المتطورة. وفي مطلع عام 2025، أعلنت شركة “مبادلة” الإماراتية عن توقيع اتفاقية مع الرباط للتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل المغرب. وتنص الاتفاقية على دراسة جيولوجية وزلزالية لمنطقة غرب البحر المتوسط مساحتها 3433 كيلومترا مربعا، لاستكشاف وتقييم مقدرات النفط في المنطقة.

هذا الأمر يزعج الجزائر باعتبارها دولة منتجة ومُصَدرة للمحروقات، لا سيما بعد استئناف الإمارات محادثاتها لشراء أكبر حصة في شركة الغاز الإسبانية “ناتورجي”، بعد أن أوقفتها في وقت سابق نتيجة تهديد جزائري بوقف شحنات الغاز إذا باعت “ناتورجي” أسهمها إلى “جهة أخرى”. إن الصراع بين الجزائر وأبوظبي عميق وممتد لمجالات كثيرة ومتشعبة، ولا يتعلق بالجانب السياسي وبمناهضة التطبيع فقط مثلما تروج له بعض الجهات الإعلامية. بل يتعلق في جوهره بحساسية علاقات الإمارات مع المغرب وموقفها من قضية الصحراء الغربية، و الصراع على النفوذ في أفريقيا، وعلى الثروات النفطية.

في مايو 2025، أعلنت الرباط الانتهاء من دراسات الهندسة الأولية لمشروع أنبوب الغاز العملاق الذي سيربط بين نيجيريا والمغرب من مدينة الداخلة بالصحراء، كاشفة أن الإمارات من بين الممولين الرئيسيين لهذا المشروع. ومن المتوقع أن يربط أنبوب الغاز الضخم 15 دولة بأوروبا بكلفة تناهز 25 مليار دولار، فيما سيصل إنتاجه إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويا. وهذا المشروع يمثل منافسة مغربية مباشرة للجزائر، بل إن عدة مراقبين يرون أن الهجوم الجزائري الأخير على الإمارات سببه المباشر هو تمويلها لهذا المشروع بالذات؛ في وقت ينظر بعض المراقبين الجزائريين إلى مشروع المغرب كمحاولة “سطو” على المشروع الجزائري لأنبوب نقل الغاز من نيجيريا إلى أوروبا عبر النيجر والجزائر.

إلى جانب الخلاف على الطاقة، الجزائر منزعجة من التطابق بين موقفيْ الإمارات والمغرب في قضية الصحراء الغربية وتراه السبب الحقيقي وراء تدفق الاستثمارات الإماراتية في المغرب. وبعد تطبيع الرباط وأبوظبي مع الكيان الإسرائيلي في 2020، تكثفت الاستثمارات الإماراتية إلى جانب الإسرائيلية في الصحراء. وتتهم الجزائر الإمارات بلعب دور “الواجهة” للكيان الإسرائيلي حتى تتمكن من الاستثمار في الدول الأفريقية الإسلامية. وتمثل منطقة التجارة الحرة في أفريقيا كتلة اقتصادية مهمة، تضم 54 دولة وتغطي مساحة تعادل مساحات الولايات المتحدة والصين والهند مجتمعة، وتضم حوالي مليار مستهلك أفريقي.

إلى جانب حالة الحرب الباردة “الأزلية” مع المغرب، التي لا داعي للعودة إلى تفاصيلها، تتهم الجزائر الإمارات بممارسة “ديبلوماسيتها الاقتصادية” على موريتانيا. فقد تلقت نواكشوط خلال هذا العام أسلحة متطورة من أبو ظبي، سمحت لها بإعلان الشمال الشرقي الحدودي مع الجزائر ─لأول مرة─ “منطقة عسكرية مغلقة”. وبحسب الإعلام المغربي، فإن ذلك يمهد لإطلاق الطريق الجديد الذي يربط بين مدينة السمارة الصحراوية وبير أم كَرين الموريتانية. وهي طريق جاهزة يراهن عليها المغرب لربط ميناء الداخلة الأطلسي بدول الساحل، وهو المشروع الذي يُنتظر أن تمول الإمارات الجزء الأكبر منه…

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here