عثمان لحياني
أفريقيا برس – الجزائر. ليست المرة الأولى التي تنتهي فيها أزمة سياسية بين الجزائر وفرنسا إلى تسوية بعد خلافات متفاقمة، حتى وإن كانت الأزمة الحالية هي الأكثر حدة وتعقيداً منذ أزمة تأميم المحروقات في السبعينيات، غير أن شكوكاً ما تزال قائمة، حول ما إذا كانت التفاهمات السياسية التي حصلت أول من أمس الاثنين، بين الرئيسين الجزائري عبد المجيد تبون والفرنسي إيمانويل ماكرون، كافية للقول بحصول تجاوز لكامل الأزمة، ولإصلاح كل الضرر السياسي الذي لحق بالعلاقات جراء هذه الأزمة وتداعياتها، خصوصاً بعد فتح ملفات حساسة، ومستوى التنازلات التي يمكن أن يقدمها كل طرف لقاء إعادة تطبيع العلاقات على نحوٍ مُرضٍ.
وتفتح حزمة من التفاهمات السياسية بين تبون وماكرون الباب أمام تسوية أزمة امتدت لأكثر من تسعة أشهر، خصوصاً منذ يوليو/تموز 2024، بعد إعلان باريس حينها دعم مبادرة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء، ما دفع الجزائر إلى سحب سفيرها من باريس وخفض التمثيل الدبلوماسي. واتفق الرئيسان، خلال اتصال هاتفي مطوّل أول من أمس الاثنين، على العودة إلى اتفاق الجزائر الموقّع في أغسطس/آب 2022، والاستئناف الفوري للتعاون في مجال الهجرة وحركة الأشخاص، والعودة إلى مسارات التعاون الأمني والقضائي، واستئناف عمل إنشاء اللجنة المشتركة للمؤرخين الفرنسيين والجزائريين فوراً، وإعادة رفاة المقاومين الجزائريين، وتطوير التعاون الاقتصادي والتجارة والاستثمار، وتسوية قضية الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال، وأعرب ماكرون وفق البيان عن “ثقته في حكمة وبصيرة الرئيس تبون، ودعاه إلى القيام بلفتة صفح وإنسانية” تجاه صنصال الذي قضت محكمة جزائرية بسجنه خمس سنوات، واتفق الرئيسان “مبدئياً” على تنظيم لقاء ثنائي مباشر، من دون تحديد موعد، كما اتفقا على زيارة لوزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى الجزائر في السادس من إبريل/نيسان الحالي “من أجل الإسراع في إضفاء الطابع الطموح الذي يرغب قائدا البلدين في منحه للعلاقة”، وزيارة لوزير العدل جيرالد دارمانان إلى الجزائر، من دون تحديد موعدها.
أسباب الأزمة بين الجزائر وفرنسا
وبرزت أولى مؤشرات الأزمة بين الجزائر وفرنسا بعد إلغاء زيارة كانت مقرَّرة للرئيس تبون إلى باريس في الثاني من يناير/كانون الثاني 2023 ثم في 15 مايو/أيار 2023. وفي شهر فبراير/شباط 2023 طرأت قضية الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي، التي تحمل الجنسية الفرنسية منذ عام 2007 لزواجها من جزائري مقيم في فرنسا مزدوج الجنسية، وكانت بوراوي وصلت إلى فرنسا عام 2023 عبر تونس بعد أن خرجت من الجزائر بطريقة غير قانونية؛ لأنها ممنوعة من مغادرة التراب الجزائري، ومحكوم عليها بالسجن في الجزائر. وتدخلت القنصلية الفرنسية في تونس لمنع السلطات التونسية من ترحيلها إلى الجزائر، إثر توقيفها في مطار تونس عندما كانت تحاول ركوب رحلة متوجهة إلى فرنسا باستخدام جواز سفرها الفرنسي لغياب ختم الدخول إلى تونس على جوازها. واتهمت الرئاسة الجزائرية المصالح الفرنسية بالمسؤولية عن تهريب بوراوي عبر تونس إلى فرنسا، وفي ثنايا هذه الأزمة كانت أبعاد الخلافات تتطور إلى قضايا ثقافية واقتصادية وتجارية، إذ كانت الحكومة الجزائرية قد أقرت في بداية العام الدراسي السابق استبعاداً تدريجياً للغة الفرنسية من البرامج والمقرّرات المدرسية، كما جرى استبعاد اللغة الفرنسية على نحوٍ واسع من الاستخدام في الإدارات والمؤسسات العامة، كذلك جرى تقليص حصة الشركات الفرنسية في السوق الجزائرية، وإلغاء صفقات تخص هذه الشركات.
وفي الخامس من يوليو/تموز 2024، وصلت الأزمة بين الجزائر وفرنسا إلى ذروتها، حين قررت الحكومة الجزائرية سحب سفيرها لدى باريس فوراً، عقب إقدام الحكومة الفرنسية على الاعتراف بالمخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء، وفي 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تطورت الأزمة بعد أن أوقفت السلطات الجزائرية الكاتب بوعلام صنصال لدى عودته من باريس، وصعّدت فرنسا لاحقاً من مواقفها بسبب رفض الجزائر التعاون في قبول المهاجرين الجزائريين المبعدين إلى بلدهم، إذ فرضت قيوداً على حركة الشخصيات الجزائرية الحاملة لجوازات سفر دبلوماسية.
هذه الأزمة الحادة بين الجزائر وفرنسا التي تطورت لتطاول ملفات بالغة التعقيد، كالهجرة وحركة تنقّل الدبلوماسيين وتجميد التجارة والتنسيق الأمني والقضائي وغيرها، وقياساً بالضرر الكبير الذي أحدثته في العلاقات الجزائرية الفرنسية، يرى مراقبون أنها ما زالت بحاجة إلى مزيد من النقاشات والمباحثات في المرحلة المقبلة، حول القضايا الخلافية، سواء تلك التي أسست للأزمة أو تلك التي برزت ضمن حزمة من التداعيات، قبل الجزم بحدوث تجاوز كامل للأزمة وتسوية الخلافات، خصوصاً بعد انهيار الثقة السياسية بين الطرفَين، وفقاً لما عبّر عنه الرئيس الجزائري قبل فترة.
ويقول النائب في البرلمان الجزائري عن الجالية في فرنسا وعموم الخارج، عبد الوهاب يعقوبي، إن “العلاقات المتشابكة بين الجزائر وفرنسا تمر بمرحلة إعادة ضبط، لاستعادة قنوات الحوار والتعاون بعد التوترات التي شهدتها الأشهر أو حتى السنوات الأخيرة”، ويضيف أن “هناك جهوداً دبلوماسية مكثفة لإعادة الدفء إلى العلاقات نظراً لمتانة حضور الجزائريين الكبير في الضفة الشمالية، خصوصاً في الملفات الاقتصادية والأمنية، لكن مسألة “الثقة السياسية” أعمق من مجرد عودة التواصل الدبلوماسي، وتتطلب استراتيجية ورؤية وخطة طريق واضحة بعيدة عن ردود الأفعال التي تنسف تلك الثقة في كل مرة”، ويؤكد يعقوبي أن “العلاقات بين البلدين محكومة بتراكمات تاريخية وملفات حساسة، مثل الذاكرة الاستعمارية والهجرة والتعاون الأمني، وهذه الملفات لا تحلّ بسهولة أو بسرعة، لذلك قد يكون من الواقعي القول إنّ ما يحدث حالياً هو عودة إلى إدارة العلاقات على نحوٍ طبيعي ضمن الروتين الدبلوماسي، أكثر من كونه بناء ثقة سياسية حقيقية، والتي تتطلب خطوات أكثر جرأة وتنازلات متبادلة من الطرفين”.
تنازلات أولية بانتظار التسوية الكاملة
تعطي بعض المعطيات التي وردت في البيان الرسمي الصادر بعد اتصال تبون وماكرون، مؤشرات بشأن حصول تنازلات أولية في بعض القضايا، بينها إنهاء التدابير التقييدية التي اتخذتها باريس بشأن حركة تنقّل الدبلوماسيين الجزائريين وعائلاتهم إلى فرنسا ووقف التصعيد، وتأكيد استعادة رفاة المقاومين الجزائريين، وتبادل المطلوبين خصوصاً بالنسبة للجزائر التي تطالب باريس تسليمَها عدداً من الشخصيات الفارّة المتورطة في قضايا فساد، أو نشطاء متورطين في المساس بالأمن الجزائري، على غرار قائد جهاز الدرك الجزائري السابق عبد الغالي بلقصير، ووزير الصناعة عبد السلام بوشوارب. يضاف إلى ذلك قبول الجزائر التعاون في استقبال المهاجرين المبعدين من الأراضي الفرنسية، والعودة إلى التعاون الأمني بين البلدين، لكنّ هذه القضايا لا تمثل جوهر الأزمة ودوافعها الأساسية، ما يعني أن الحسم بشأن القضايا الخلافية، مرتبط بمخرجات الزيارة التي سيقوم بها دارمانان إلى الجزائر، وقبله زيارة بارو إلى الجزائر نهاية الأسبوع الحالي، لحسم بعض القضايا، بما فيها مسألة الموقف الفرنسي من قضية النزاع في الصحراء، إذ نص البيان المشترك على “العودة إلى حوار متكافئ بين البلدين باعتبارهما شريكين وفاعلَين رئيسيَين في أوروبا وأفريقيا، مُلتزمين تمام الالتزام بالشرعية الدولية، وبالمقاصد والمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة”.
وفي السياق تؤكد مصادر دبلوماسية أن تبون سيعيّن مباشرة بعد زيارة بارو إلى الجزائر في 6 إبريل الحالي، سفيراً جديداً للجزائر لدى باريس، لينهي بذلك قرار خفض التمثيل الدبلوماسي الذي اتخذته الجزائر في يوليو 2024، وبعد تسعة أشهر من شغور منصب السفير الجزائري في باريس، في خطوة أولى تعكس العودة إلى وضع ما قبل الأزمة.
لكن الباحث المتخصص في العلاقات الجزائرية الفرنسية فيصل زغدار، يؤكد أنه “لا يمكن الحديث عن تسوية للأزمة، أي أزمة، من دون معالجة الأسباب العميقة التي كانت الدافع الأساسي لها”، ويضيف: “في الأزمة الحالية، الجزائر لها أسبابها الخاصة، بداية برفض تسليم أغراض الأمير عبد القادر والاعتراض على برنامج اقترحته فرنسا لزيارة تبون إلى باريس كانت مقررة في مايو/أيار 2023، ثم التحوّل الذي طرأ على الموقف الفرنسي من قضية الصحراء، في المقابل لباريس أسبابها الخاصة في هذه الأزمة منها؛ دحرجة اللغة الفرنسية في الجزائر، واستبعاد الشركات الفرنسية من السوق الجزائرية، وصولاً إلى قضية ترحيل المهاجرين المبعدين، ومحاكمة الكاتب بوعلام صنصال”، ويتابع: “هناك أسباب وهناك تداعيات، وأعتقد أن التسوية والتفاهمات ستخصّ معالجة التداعيات فحسب، وهذا هو السيناريو الواقعي، لأن الأسباب العميقة غير قابلة للنقاش بالنسبة للطرفَين، إذ ليس من الوارد أن تتراجع باريس عن موقفها بشأن النزاع الصحراوي، مثلما ليس من المتوقع أن تتراجع الجزائر عن خيار فكّ الارتباط الاقتصادي مع فرنسا لصالح شركاء الشرق، لأن المسألة خيار استراتيجي وليست مجرّدَ رد فعل ظرفي، ناهيك عن وجود اليمين الفرنسي في الحكم والمؤسسات في الوقت الحالي، ووجوهه البارزة في الحكومة، الذي يناوئ الجزائر ويعزز مبررات التوتر أكثر”.
ويدفع مثل هذا التقدير السياسي إلى توقعات لدى البعض بأن تعود العلاقات بين الجزائر وفرنسا إلى مستوى ما كانت عليه قبل يوليو 2024، ما يعني العودة إلى مرحلة تسييرٍ للعلاقات الطبيعية، بسبب العوامل الضاغطة على البلدين، ومنها وضعية الجالية الكبيرة في فرنسا بالنسبة للجزائر، والمخاوف من انهيار كاملٍ للعلاقات والمصالح الفرنسية في الجزائر بالنسبة لباريس، من دون أن تغامر السلطة السياسية في الجزائر بموقفها تجاه الرأي العام والمجتمع السياسي الجزائري، أو خسارة الدعم الشعبي الذي حصلت عليه خلال الأزمة مع باريس، ما يعني أن التحليلات التي تتحدث عن الحاجة إلى إعادة بناء الثقة السياسية في أفق الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، تبدو أكثر واقعية من الناحية الحقائق السياسية القائمة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس