محمد سي بشير
أفريقيا برس – الجزائر. المؤرّخ الفرنسي بنجامين ستورا يصل إلى قصر الإليزيه في باريس (26/1/2022/فرانس برس)
شارك المؤرّخ الفرنسي، بنجامين ستورا، المعين عن الجانب الفرنسي في ملفّ مصالحة الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، في احتفالات ستينية استقلال الجزائر، وانتهت زيارته باستقبال حظي به لدى الرئاسة الجزائرية باعتباره حاملاً رسالة تهنئة من الرئيس ماكرون إلى الرئيس عبد المجيد تبّون بالمناسبة.
بقصد إبراز أنّ النُخبة السياسية الفرنسية ما زالت ترفض مجرّد الاعتراف بأنّ ثمّة ظلما، لا نقول استيطانا ولا استعمارا، وفق إدراكهم للمسألة، وقع على الجزائر فترة فاقت المائة والثلاثين عاما، وأوقعت ملايين الشهداء، عومل فيها الجزائريون معاملة العبيد على أراضيهم بعد صدور قانون الأهالي في العام 1870، فإنّنا سنحاول إظهار أنّ رسالة ماكرون واستقبال الرئيس تبون ستورا، وما عرضه عليه، لن يكون إلا مجرّد مماطلة تلي المماطلات السياسوية الفرنسية إزاء ملفّ الذاكرة.
يجب، في بداية الأمر، العودة إلى كتابات ستورا وأحاديثه الإعلامية، لاكتشاف أنّه ناشر رأي الأقدام السوداء (ساكني الجزائر أو معمّريها من الأوروبيين والفرنسيين، بوجه خاصّ، في أثناء الفترة الاستيطانية، وغادروها في أعقاب إعلان وقف إطلاق النار، في مارس/ آذار 1962) المتضمّنة الاعتراف، على مضض، بأنّ النظام الاستيطاني كان ظلماً، لكنه، في نهاية الأمر، عاد بالنفع، لأنّه أنشأ الطرق، بنى بنايات ومستشفيات ومدارس، بل وجامعات أيضاً، متناسين أنّها كانت لصالح المستعمرين، ولم تكن ذات فائدة للأهالي الجزائريين. كما أنّه (ستورا) كان من القائلين إنّ هذا الاعتراف أقصى ما يمكن تقديمه من دون أيّ آفاق لثلاثية الاعتراف بالجرائم، والاعتذار عنها والتّعويض عن أبشعها، أي التفجيرات النووية والكيميائية، في الصحراء الجزائرية، وهو ما اعترف به على الدوام وسطره في تقريره الذي قدمه للرئيس الفرنسي ماكرون، بصفته ممثّل فرنسا في ملفّ تصالح الذاكرة مع الجزائر.
قدم ستورا إلى الجزائر، وسبقته، من دون أن يندّد بها، تنظيم النُّخبة السّياسية والجامعية الفرنسية تظاهرتين ممجّدتين للنّظام الاستيطاني، حيث عمدت الأولى، في جامعة السوربون، في يونيو/ حزيران الماضي، إلى محاكمة الجزائر عن الفترة التالية للاستعمار أي منذ 1962، وكأنّها الوصية على الجزائر المستقلّة من دون أن تتحدّث عن ملايين الجزائريين الذين قضوا في الفترة الاستيطانية، ولا عن مساوئ الاستيطان، على المستويات كافة. والمؤسف أنّ جامعيين جزائريين شاركوا في تلك التظاهرة ذات الواجهة العلمية والخلفية الممجّدة للاستعمار، مع الاعتراف، هنا، للجميع، بلغة ومقاربة أكاديميتين، بواجب التدقيق في منجزات الاستقلال والسياسة العامّة، وهو ما أوردته مقالة منشورة للكاتب في “العربي الجديد” لكن، لرمزية الذكرى، ليس في فرنسا وليس بذلك العنوان المستفز.
رسالة ماكرون واستقبال الرئيس تبون ستورا، وما عرضه عليه، لن يكون إلا مجرّد مماطلة تلي المماطلات السياسوية الفرنسية إزاء ملفّ الذاكرة
ونظم التظاهرة الثانية متطرّفو حزب مارين لوبان، التجمُّع الوطني (الاسم الجديد للجبهة الوطنة التي كان الوالد لوبان، المتطرّف اليميني، قد أنشأها منذ ثلاثة عقود)، وكان عنوانه “تمجيد الاستعمار وإيجابياته للجزائر” وهي تظاهرة سياسية بامتياز ومعبرة عن بقاء الحنين للجزائر الفرنسية في مخيلة الأقدام السوداء، وهو ما ظهر من خلال مداخلة عميد البرلمانيين الفرنسيين، في الجمعية الفرنسية، عندما منحت له الكلمة، وقال إنّ ثمّة حنيناً للجزائر، في تعبير عن بقاء جرح الجزائر المستقلة مفتوحاً. وفي إعادة مفضوحة لما كانت الجمعية الفرنسية قد أقرّته في العام 2004 تحت عنوان مثير “تمجيد الاستعمار” إذ تمّ اعتبار الفترة الاستيطانية مشروعاً حضارياً له من الايجابيات ما يغطّي، كما زعموا، على بعض الأخطاء العابرة، في إغفال تامّ ومتعمّد لكلّ الجرائم التي جرى ارتكابها في الجزائر 132 سنة، كانت حقاً ليلاً استعمارياً (عنوان كتاب يروي الاستيطان لصاحبه المجاهد التّاريخي فرحات عبّاس) ووقائع تروي سنوات الجمر واقعاً موثّقاً (عنوان فيلم سينمائي جزائري نال السّعفة الذّهبية في منتصف سبعينيات القرن الماضي في مهرجان كانّ الفرنسي لمخرجه العالمي، لخضر حامينا).
في ملاحظة ثالثة، يمكن تصوّر النفاق الفرنسي في أنّ التهنئة، بمناسبة ستينية الاستقلال، كانت إشارة مبطّنة إلى ما سيكون عليه ملفّ الذّاكرة في العهدة الثانية لماكرون، بسبب خسارته الأغلبية النيابية، وكأنّه، أولاً، عندما حاز تلك الأغلبية تقدّم في تصالح الذاكرة، وكأنّه، ثانياً، يرسل إلى الجزائريين رسالة غير مشفّرة، مفادها واضح بأنّ فرنسا، أيّاً كانت حالتها السّياسية، لن تعترف نخبتها أبداً بالجرائم، ولن تعتذر وأقصى ما يمكن تقديمه، ثالثاً، اعتراف بجريمة الدولة الفرنسية في حق موريس أودان (أستاذ الرياضيات الفرنسي اليساري المتعاطف مع الثورة، والذي قضى تحت التعذيب في أثناء الثورة التحريرية الجزائرية) ومنجلي (محامي مجاهدي جبهة التحرير والذي تم تعذيبه ثمّ رميه من طابق عالٍ لعمارة في العاصمة الجزائرية في الفترة نفسها)، وإعادة جماجم مجاهدين من عهد المقاومة التي كانت تعترض الاستيطان الفرنسي في أعوامه الأولى للاستدمار، وهي اعترافاتٌ بمثابة فتات إلى حجم ملف الذّاكرة الذي يغطّي فترة تتجاوز 132 عاماً وعدداً ضخماً من الضّحايا لا يمكن أن يكون أقلّ من 10 ملايين إلى 12 مليونا، كما سبق إثبات ذلك من المؤرّخين وبوقائع وقرائن ومن دون تناسي التفجيرات النووية والتجارب الكيميائية التي ما زالت تفتك بالجزائريين.
يجب أن تبتكر الجزائر إبداعاً جديداً وضاغطاً، ليكون الملفّ التاريخي محورياً في العلاقات مع فرنسا، بالاعتماد على ملفّات عدّة
على المستوى السياسي، بالتركيبة الجديدة للجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان الفرنسي)، بعد تشريعيات خسرها حزب ماكرون لصالح، بصفة خاصّة، اليمين المتطرّف (أصبح يحوز كتلة بزهاء 90 نائباً كلهم كراهية لكلّ ما هو آخر، خصوصاً إذا كان مغاربياً أو من إخواننا الأفارقة)، لا يمكن لتصالح الذاكرة أن يكون له ذكر، فضلا عن أن يشهد تقدُّما ما في أفق الثلاثية (الاعتراف، ثم الاعتذار، ثم التعويض) بما يعني أنّ الثنائي ماكرون وستورا سيكونان في راحة مبرّرة إزاء ملفّ الذاكرة، ما يعني أنّ الجزائر يجب أن تبتكر إبداعا جديدا وضاغطا، ليكون الملفّ التاريخي محوريا في العلاقات بين البلدين، بالاعتماد على ملفّات عدّة.
بداية، لم تعد تجدي إدارة مؤرخ الملفّ، وإن بلغ القمّة في تخصّصه، لأنّ الملفّ أضحى، الآن، مركّبا ومعقدّا يحتاج دبلوماسية هجومية، تضع في أيدي الإدارة كلّ الأدوات بقصد فرض الثُّلاثية المذكورة، وليس انتظار أن تمنّ فرنسا بها علينا بالأدوات التي اعتدنا على استخدامها.
هناك، الآن، ملفّان يمكن الضّغط بهما على فرنسا، الساحل والطاقة، حيث يمكن العمل، على أساسهما، لفرض تلك الإستراتيجية الحيوية بالنّسبة للجزائر، فقد بدأت فرنسا، منذ أشهر، عملية إعادة تموضع لقوات عملية برخان التي تدخّلت بموجبها في مالي (تعيد تركيز جزء كبير من تلك القوات في البلد المحاور، النيجر)، وهي تحتاج مساندة جزائرية بفعل تصاعد العمليات الإرهابية في المثلث الخطير بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، بل اقتربت تلك العمليات حتى من العاصمة باماكو، إضافة إلى استعانة مالي بمليشيات فاغنر الروسية، وفرنسا تريد أن لا تقترب من النيجر مورّد اليورانيوم الذي يشغّل المفاعلات النووية الفرنسية لتوليد الكهرباء، خصوصا في هذه الفترة التّي تسعى فيها فرنسا إلى التّقليل من الاعتماد، رفقة أوروبا برمّتها، من الاعتماد الكامل على الطاقة الرُّوسية، نفط وغاز، بما يعني أنّ فرنسا بحاجة إلى الجزائر. وبالتّالي، يمكن أن يشكّل منطلقا لمقابلٍ يتناسب في حجمه مع التّنازل الفرنسي الحتمي للتعامل مع ملفّ الذاكرة وغيرها من الملفّات، بما يخدم مصالح الجزائر.
يمكن تصوّر النفاق الفرنسي في أنّ التهنئة، بمناسبة ستينية الاستقلال، كانت إشارة مبطّنة إلى ما سيكون عليه ملفّ الذاكرة في العهدة الثانية لماكرون
للملفّ الثّاني والحيوي، منذ الحرب بين روسيا وأوكرانيا، صلة بالطاقة، وفرنسا تنتظر من الجزائر توريداً، لناحية الحجم، للغاز يتناسب مع ما ستفقده غداة إعلان الأوروبيين عن جدول زمني لحظر الطاقة الرّوسيـة. وبالنظر إلى الحاجة الماسّة للبديل الجزائري، وبسبب تأثيرات الأزمة الطاقوية، الآن، على التضخّم وعلى الاقتصادين، الأوروبي والفرنسي، بصفة خاصّة، فانّ أيّ قرار جزائري سيكون مرحّبا به إذا كان لصالح توريد أكثر للغاز بما يسمح للمخزونات الفرنسية بتجاوز الخريف والشتاء المقبلين، من دون الحاجة إلى قرارات طاقوية صعبة على الفرنسيين وعلى الاقتصاد الفرنسي.
ولا يمكن النظر إلى هذين الملفين إلّا على سبيل المثال، لا الحصر، لما يمكن أن تشحذه الجزائر من خيارات وبدائل للضغط على فرنسا، وفرض الابتعاد عن الاحتجاج بالظرف السياسي الفرنسي الحالي لترحيل ملفّ تصالح الذاكرة، بل، زيادة على ذلك، يمكن تحييد اليمين المتطرّف وأذرعه الإعلامية والسّياسية من توظيف الظرف السياسـي والتركيز على الموضوع الجزائري، باعتباره محورياً في النقاش السياسي الداخلي الفرنسي، كما جرت العادة، منذ أعوام، خصوصاً في الحملات الانتخابية.
هذه نبذة عن بدائل الجزائر للتنفيس عن الإحباط الخاص بملفّ الذاكرة، وبالتغيير الذي يجب فرضه، وصولاً إلى المبتغى والمأمول والثلاثية المنتظرة: الاعتراف، ثم الاعتذار، ثم التعويض .. وإنّ غداً لناظره لقريب.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس