تراجع نفوذ رجل الظل في الجزائر.. إعادة ترتيب أم توازنات جديدة؟

تراجع نفوذ رجل الظل في الجزائر.. إعادة ترتيب أم توازنات جديدة؟
تراجع نفوذ رجل الظل في الجزائر.. إعادة ترتيب أم توازنات جديدة؟

أفريقيا برس – الجزائر. حمل القرار الأخير المتعلق بإنهاء مهام المستشار القوي في قصر المرادية والدولة معًا بوعلام بوعلام، دلالات متباينة بين ترتيب الأوراق داخل مفاصل الدولة – بإعادة مهام حساسة كانت بحوزته إلى المؤسسة الأمنية – وبين توازنات مستجدة تفضي إلى تقليص نفوذ “رجل الظل” في جناح الرئاسة، بما كان يشكله من ثقل داخل السلطة، والعودة إلى الصلاحيات الأصلية لكلٍّ من الرئاسة والمؤسسة الأمنية.

أوحى القرار الصادر في العدد الأخير من الجريدة الرسمية، والقاضي بتعيين مستشارين جدد في رئاسة الجمهورية وإعفاء كبير المستشارين بوعلام بوعلام من مهامه، إلى أن تراجع الهزّات داخل السلطة تدريجيًا في السنوات الأخيرة لا يعني استعادة الاستقرار التام داخل مفاصلها، في إطار ما يُعرف بـ”صراع الأجنحة” على مواطئ النفوذ.

وشكّل تزامن تنحية الرجل مع حزمة من الحوادث اللافتة خلال الأشهر الأخيرة، مسارًا مستجدًا يعزّز سياق الحركة المستمرة لرمال السلطة في الجزائر، رغم محاولات التجاهل أو العزل بين تنحية بوعلام بوعلام وبعض الإقالات التي طالت ضباطًا سامين في المؤسسة العسكرية، والإطاحة برئيس الوزراء، وتغييرات أخرى مست مسؤولين سامين في مؤسسات حكومية.

في نهاية شهر أوت الماضي، تم الاستغناء عن رئيس الوزراء، وقبلها مدير ديوان الرئاسة محمد نذير العرباوي، بالتوازي مع حادثة “الباص” الذي انحرف في وادي الحراش بالعاصمة وأودى بحياة 20 راكبًا. وفيما كان الشارع الجزائري ينتظر تغييرًا حكوميًا جذريًا تماشيًا مع المطالب الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة، تم الاكتفاء بإقالة رئيس الوزراء المذكور، وبعد أسابيع من ذلك تم تعديل الحكومة بشكل غلب عليه تدوير الحقائب بين الوزراء دون تغييرات جوهرية.

وفي شهر سبتمبر الماضي، تفجّرت قضية المدير السابق لجهاز الأمن الداخلي الجنرال عبدالقادر حداد المعروف بـ“ناصر الجن”، حيث تعددت الروايات والتأويلات بين من جزم بفراره إلى إسبانيا على خلفية صراعات داخل السلطة حول ملفات ومصالح ضيقة، وبين من أكد عدم مغادرته التراب الجزائري. لكن التدابير الأمنية المتخذة آنذاك أوحت بأن البلاد تعيش حدثًا أمنيًا كبيرًا، اختارت السلطة التكتم عليه إلى غاية الآن، واكتفت بتسريبات محدودة عبر أذرعها الإعلامية، كصحيفتي الخبر ومساء الجزائر (Le soir d’Algérie) الناطقة بالفرنسية.

أحداث متعددة لسياق واحد

تمت الإطاحة بمسؤولين كبار من على رأس مؤسسات اقتصادية كبرى، حيث أُقيل رئيس مجمع “مدار” الاقتصادي شرف الدين عمارة، الذي كان يُعتبر أحد أقطاب القطاع الحكومي. ولا يُستبعد أن تكون الخلافات السياسية بين الجزائر ودولة الإمارات العربية المتحدة من أسباب القرار، نظرًا لارتباط الشركة باتفاقيات شراكة مع الإماراتيين في مجال صناعة السجائر.

وجاءت قضية الجنرال عبدالقادر حداد في سياق الحركية المستمرة داخل المؤسسة العسكرية، إذ تزامن الاستغناء عنه من مديرية الأمن الداخلي مع إقالة قائد جهاز الدرك الجنرال علي يحيى أولحاج. أما تقليص نفوذ المستشار المدني بوعلام بوعلام، فشكّل مفاجأة للرأي العام، بالنظر إلى النفوذ والثقل اللذين كان يحظى بهما داخل قصر المرادية.

ومنذ تولي الجنرال سعيد شنقريحة قيادة الجيش عام 2020، وتعيينه وزيرًا منتدبًا للدفاع الوطني في الحكومة الماضية، أضفى حالة من الانضباط والاستقرار داخل المؤسسة العسكرية، لكنها لم تكتمل بعد في ظل استمرار التغييرات المثيرة للجدل.

ورغم المكاسب التي حققتها المؤسسة العسكرية منذ عام 2020 في توزيع مراكز النفوذ داخل الدولة — لدرجة شغل إطاراتها مناصب مدنية على رأس بعض المؤسسات كالجمارك، وشركات الاتصالات الحكومية، والصناعات الميكانيكية وغيرها — إلا أن أنباء عن عدم التوافق ما زالت تطارد المؤسستين: الرئاسة والجيش.

وتُطرح علاقة الجيش بالسلطة المدنية بحدة في النظام الجزائري منذ سنوات الاستقلال الأولى، غير أن نفوذه سجل تراجعًا كبيرًا خلال حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، الذي سعى إلى تحييد المؤسسة العسكرية تدريجيًا لصالح قوى وازنة أخرى كرجال المال والأعمال. غير أن الحراك الشعبي أعادها بقوة إلى الواجهة من بوابة ملء فراغ السلطة المدنية ورغبتها في تطويق الاحتجاجات الشعبية، وازداد توسعها في السنوات الموالية، رغم الانتقادات الحادة لنهج “عسكرة الدولة”.

مزيد من التوسع لدور الجيش

على هامش حادثة “الباص”، ظهر بوعلام بوعلام في واجهة الإعلام من خلال إشرافه الشخصي على متابعة مجريات الحادثة، في وقت كان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يقضي إجازته السنوية وسط تساؤلات وشائعات حول وضعه الصحي. لم يكن أحد آنذاك يتوقع تقلّص دور بوعلام بعد أشهر قليلة، رغم ما تردّد عن علاقة غير ودّية تربطه بقيادة المؤسسة العسكرية.

ظلّ العارفون بكواليس السلطة في الجزائر يجزمون بأن نفوذ الرجل ما فتئ يتمدد ويتغلغل، حتى بات يُوصف بـ“رجل الظل القوي في قصر المرادية”، بالنظر إلى جمعه بين منصبين في آن واحد: مدير ديوان الرئاسة منذ عام 2023 خلفًا لمحمد نذير العرباوي، ومستشارًا لرئيس الجمهورية مكلّفًا بالشؤون القضائية والقانونية والعلاقات مع المؤسسات والتحقيقات والتأهيل، ما جعله بمثابة رئيس الحكومة الفعلي والعقل المدبّر لشؤون الدولة.

ورغم عمله في الظل داخل رئاسة الجمهورية، إلا أنّ الأضواء الإعلامية سلطت عليه في السنوات الأخيرة، واعتبره البعض امتدادًا لمسار العربي بلخير، مدير ديوان الرئاسة الراحل في ثمانينيات القرن الماضي، الذي كان يُوصف بـ“صنّاع الرؤساء”، وأيضًا سعيد بوتفليقة، شقيق ومستشار الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة منذ عام 2014، حين تحوّل إلى الحاكم الفعلي للبلاد مستغلًا مرض وعجز الرئيس المنتخب، قبل أن يُطيح به الحراك الشعبي عام 2019، حيث يقبع منذ ذلك الحين في السجن.

وإذا كان العربي بلخير وسعيد بوتفليقة قد استمدا قوتهما من لوبي فرانكفوني نافذ في حالة الأول، ومن القرابة العائلية في حالة الثاني، فإنّ بوعلام بوعلام استمدّ نفوذه من مساره المهني في جهاز القضاء، ومن منصبه السابق (2015–2020) على رأس جهاز التنصت بالدرجة الأولى، فضلًا عن انحداره من الجنوب الغربي، وهو نفس الإقليم الذي ينحدر منه الرئيس تبون.

كوّنت لديه السنوات الخمس التي قضاها على رأس جهاز التنصت – الذي تولّاه بتزكية من جناح الرئيس الراحل بوتفليقة بعد انتزاعه عام 2015 من جهاز الاستخبارات – رصيدًا من المعلومات والنفوذ، إذ صار على اطلاع بأسرار الاتصالات التي كانت تجري بين كبار مسؤولي الدولة، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين أو أمنيين. وهو ما وضع بين يديه قوة ناعمة يستخدمها للتأثير أو الضغط بحسب مقتضيات المواقف.

إحياء مجد مديري الديوان الرئاسي

كان القاضي والمسؤول السابق في جهاز العدالة بوعلام بوعلام مفتاحًا مهمًا للرئيس عبد المجيد تبون، إذ استعان به ليكون ذراعه اليمنى في مواجهة الاهتزازات المحتملة، ورجل ثقته في إدارة شؤون القصر الرئاسي وتوازن مجموعات الضغط. وقد تمّ منحه مهام وصلاحيات واسعة وحساسة، مما جعله بمثابة حاكم الظل الذي يمسك ويدير مختلف الخيوط.

وتضمّن القرار الأخير تعيين كلٍّ من محمد حموش مستشارًا مكلفًا بالشؤون القانونية والقضائية، ونصر الدين بن طيفور مستشارًا مكلفًا بملف التربية والتعليم العالي والتكوين المهني والثقافة، وفريد يائسي مستشارًا لشؤون المالية والبنوك والميزانية، واحتياطي الصرف والصفقات العمومية والمخالصات الدولية. كما نصّ القرار على إعفاء بوعلام بوعلام من مهامه كمستشار مكلف بالشؤون القضائية والقانونية والعلاقات مع المؤسسات والتحقيقات والتأهيل.

غير أنّ قراءة القرار تُظهر أنّ مهام العلاقات مع المؤسسات والتحقيقات والتأهيل هي جوهر الجدل، إذ تمّ سحبها كليًا من رئاسة الجمهورية، لتُحال بصفة آلية إلى الجهات الأمنية الأخرى، وفي مقدمتها الاستخبارات الداخلية. حتى المستشار الذي خلف بوعلام لم يحتفظ سوى بالشؤون القانونية والقضائية، ما يعني تجريد رجل الظل القوي، ومن خلفه مؤسسة الرئاسة، من الإشراف على التحقيقات القضائية والأمنية، ومن سلطة الحسم في قضايا التأهيل لشغل المناصب الحكومية.

كانت تلك المهام تمنح الرئاسة إمكانية اعتماد معايير توافق رغباتها حتى في حال وجود مؤشرات سلبية ضدّ المعنيين، فضلًا عن صلاحية الاتصال المباشر بمختلف مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية.

لكنّ الموالين للرئيس تبون لا يبدون قلقين من هذا التغيير، معتبرين أنّ بوعلام احتفظ بمنصبه كمدير لديوان الرئاسة، وهو منصب يتمتع بصلاحيات واسعة، وأنّ المهام التي سُحبت تبقى عمليًا تحت سلطة رئيس الجمهورية نفسه. وبالتالي، فإن ما جرى لا يتعدّى كونه اختصارًا إداريًا في قنوات القرار بين المؤسسات والرئيس، بعدما كانت تمرّ عبر بوعلام بوعلام.

ما ضاع باليسار اكتُسب باليمين

يستند هؤلاء، بحسب الناشط السياسي والحقوقي حميد مهني، في حديثه لـ”أفريقيا برس”، إلى مضمون المرسوم الرئاسي الصادر عام 2023 المتعلق بمهام وصلاحيات مدير الديوان، والتي تشمل: متابعة تنفيذ قرارات وتوجيهات رئيس الجمهورية، إبلاغه بآخر التطورات، تنسيق عمل المستشارين والإشراف عليهم، متابعة الشؤون السياسية والاقتصادية والعلاقات الدولية، إعداد العروض والتحليلات، وإدارة العلاقات مع وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية، إلى جانب التواصل مع الأحزاب والمجتمع المدني لتقييم الرأي العام حول القرارات الكبرى، والإشراف على مديرية العرائض.

كما تشمل المهام تزويد الرئيس بالمعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات، والمساعدة في إعداد الملفات والدراسات، وتحضير وتنظيم الأسفار الداخلية والخارجية وزيارات رؤساء الدول الأجنبية.

ويُخوّل لمدير الديوان توقيع الوثائق والمقررات باسم رئيس الجمهورية – باستثناء المراسيم – وتفويض الإمضاء للمُعيّنين في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية ممن لهم رتبة نائب مدير على الأقل، فضلًا عن الإشراف على مديريات التشريفات والترجمة والخط والسكرتاريا الخاصة.

ويرى هؤلاء أن هذه الصلاحيات كافية للاطمئنان على مكانة بوعلام بوعلام داخل هرم السلطة، مؤكدين أن المشككين هم من يسعون إلى استثمار سياسي وإعلامي في التعديلات التي تشهدها مؤسسات الدولة، وتصويرها كخلافات داخلية أو علامات على عدم الاستقرار.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here