سمير حمدي
أفريقيا برس – الجزائر. يقع المغرب العربي عند بوابة أوروبا، وهو في نواحٍ كثيرة امتداد لها؛ ويشكل البحر الأبيض المتوسط عقبةً أقلّ بكثير من المساحات الصحراوية الممتدّة، التي تفصل شمال أفريقيا عن بقية القارة الأفريقية. لقد شُبّه المغرب العربي بالجزيرة، ولا تكون الصورة دقيقةً إلا إذا حدّدنا الرابط الذي يشكّله البحر إلى الشمال، والفاصل الذي تمثّله الصحراء إلى الجنوب. لقد كانت الاتصالات الأوروبية المغاربية مستمرّة، وربّما لم تكن العلاقات جيّدةً دائماً، غير أن التكامل بين ضفّتي البحر الأبيض المتوسط أكبر بكثيرٍ من التنافس، وهذا ما يفسّر النتائج المذهلة التي تعطيها المؤشّرات الموضوعية للعلاقات الدولية (إحصاءات البريد، والنقل البحري أو الجوي، وحركة السكّان، وما إلى ذلك)، عند تطبيقها على العلاقات بين الشمال والجنوب، وعلى العلاقات بين الشرق والغرب.
كانت العلاقة بين فرنسا ومنطقة المغرب العربي دائماً معقّدةً ومتعدّدة الأوجه، وتتميّز بمزيج من الروابط التاريخية، والاتصالات الثقافية، والترابط الاقتصادي، والديناميكيات الجيوسياسية. لكنها، في السنوات الماضية، دخلت مرحلةً من عدم اليقين، تتّسم بالتحدّيات المختلفة والديناميكيات المتغيّرة.
ومن العوامل الرئيسة التي تساهم في هذا الغموض المشهد السياسي المتغيّر في فرنسا، وفي دول المغرب العربي، ففي فرنسا، كان للتغيّرات السياسية الداخلية وصعود الحركات الشعبوية تأثير في السياسة الخارجية للبلاد ونهجها تجاه المغرب العربي. وقد أدّى هذا إلى تبنّي موقفٍ أكثر حذراً وانطوائية، فضلاً عن التركيز بشكل أكبر في المصالح الوطنية.
في المقابل، تمرّ منطقة المغرب العربي بمرحلةٍ صعبةٍ تتّسم بالأزمات السياسية والتحدّيات الاقتصادية الكُبرى. في ليبيا، أدّى الصراع على السلطة، والتنافسات الداخلية، إلى دفع البلاد إلى حالة من الاضطراب، مع ما ترتب على ذلك من عواقب مزعزعة للاستقرار في المنطقة بأكملها. وفي تونس، أثار تآكل الديمقراطية وهشاشة المؤسّسات المخاوفَ بشأن مستقبل البلاد. علاوة على ذلك، شهدت العلاقات بين الجزائر والمغرب تدهوراً ملحوظاً، مع استمرار التوتّرات المحيطة بالقضايا السياسية والإقليمية. وتؤدّي هذه الصراعات إلى إعاقة التعاون الإقليمي وتخلق مناخاً من عدم اليقين بشأن مستقبل الاستقرار في المنطقة.
ومع إغلاق الحدود منذ 1994 وانقطاع العلاقات الدبلوماسية منذ 2021، لا تزال التوتّرات بين الجارتَين المغاربيتَين مرتفعة، خاصّة أن التحالفات الدولية أحيت مصدراً آخرَ للخلاف؛ التعاون العسكري والأمني بين المغرب وإسرائيل، في حين أن الجزائر، التي تدعم رسمياً القضية الفلسطينية، لا تعترف بالدولة العبرية. وقد وصل الانقسام إلى حدّ أن الجزائر بدأت تتّجه في الآونة الماضية نحو تونس وليبيا لدراسة تشكيل كتلة مغاربية جديدة، من دون المغرب وموريتانيا.
ويبدو أن اللجوء المكثّف إلى المُستعمِر السابق يشكّل السمةَ الأساسيةَ لأسلوب التعاون الذي تتبنّاه بلدان المغرب العربي، ومن الصعب حساب حصّة فرنسا بشكل دقيق من المساعدات التي تتلقاها كلّ من البلدان الثلاثة (تونس والجزائر والمغرب) من الخارج، رغم أن المساعدات المالية (بالمعنى الدقيق للكلمة) من فرنسا ليست الأكثر أهمية، وربّما تتجاوزها المساعدات التي تقدّمها الولايات المتحدة وحتى جمهورية ألمانيا الاتحادية.
وجدت فرنسا نفسها مضطرّة إلى مراجعة سياستها في المنطقة ومحاولة الحفاظ على ما تبقّى لها من نفوذ تاريخي متوارث من الزمن الكولونيالي، لقد عانت الدبلوماسية الفرنسية من انتكاسات عديدة في المنطقة، وخاصّة في منطقة الساحل، وهو ما اضطرها إلى سياسة أكثر حذراً إزاء ما تبقّى من مربّعات النفوذ في القارّة الأفريقية، وفي مقدمها منطقة المغرب العربي.
ظلّت فرنسا تلعب على التناقضات المغاربية، وهكذا انتقلت في سياساتها من التقارب مع الجزائر والتنافر مع المغرب، خاصّة بعد الأزمة المتعلّقة باستخدام برنامج التجسّس بيغاسوس من المغرب لمراقبة (من بين آخرين) الزعماء السياسيين الفرنسيين، بما في ذلك رئيس الجمهورية، وحملة الصحافة المغربية ضدّ إيمانويل ماكرون، لتصطفّ لاحقاً مع الموقف المغربي من النزاع الصحراوي، ويتحوّل الودّ مع الجزائر تصعيداً وصل إلى ذروته مع قضية بوعلام صنصال، رغم أن التهدئة غالباً ما تجد مجراها بين الطرفَين في ظلّ المصالح المتشابكة. لقد خاطرت فرنسا في لحظة ما بالخسارة في الصعيدَين كليهما. وأخيراً، أصبح الميزان يميل لصالح المغرب. غير أن هذا الاضطراب في المواقف يؤكّد فكرة غياب سياسة واضحة لفرنسا إزاء المغرب العربي، بل ظلّت دائماً تستفيد من حالة اللاتجانس السياسي بين أنظمة شمالي أفريقيا، والتنافر الذي يتجلّى في علاقات فاترة أحياناً وحميمة أحياناً أخرى.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس