في مآلات انقلاب النيجر على القارّة الأفريقية

5
في مآلات انقلاب النيجر على القارّة الأفريقية
في مآلات انقلاب النيجر على القارّة الأفريقية

العابد بكاري

أفريقيا برس – الجزائر. أورد جان بول سارتر في مقدّمته لكتاب المناضل فرانز فانون في سنة 1961 “معذّبو الأرض” “أن فرنسا يجب أن تتخلّص من فرنسا، أي “على فرنسا الحرّة والمثالية أن تفصل نفسها عن فرنسا الاستعمارية”، لكن كبرياء زعمائها وتعاليهم منعاهم من استيعاب ذلك، وها هو عِقد مستعمراتها ينفرط تباعا، فبعد انقلابي مالي وبوركينا فاسو، يقود رئيس الحرس الرئاسي في النيجر، الجنرال عبد الرحمن تياني، انقلابا آخر على الرئيس محمد بازوم، أوقف من خلاله العمل بالدستور والمؤسّسات، وألغى اتفاقيات عديدة مبرمة مع فرنسا، على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. وحقنا للدماء أعلن الجيش انضمامه للانقلابيين، فيما رفضت المنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) هذا الانقلاب بدعم من فرنسا، تفاديا لانتقال عدوى الانقلابات، ووجهت إلى المجلس العسكري إنذارا بإخلاء سبيل الرئيس المخلوع والعودة إلى الشرعية الدستورية، لكن المهلة انقضت من دون أن يتراجع الانقلابيون المؤيَّدون بالجماهير الشعبية عن مطالبهم، ما حدا بالمنظمة في البداية إلى فرض عقوبات اقتصادية والتلويح بالتدخل العسكري، ثم خفض التصعيد باقتراح مهلة تسعة أشهر مرحلة انتقالية لحلّ الأزمة، فيما تناور فرنسا بإعادة نشر قواتها في دول غرب أفريقيا لشن هجوم عسكري.

ما دوافع هذا الانقلاب؟ وما مدلول الشرعية الدستورية والديمقراطية في منظور فرنسا؟ وما هي المقترحات الكفيلة بإعادة أفريقيا للأفارقة؟… نالت النيجر استقلالها عن فرنسا سنة 1960، وتحتل موقعا جغرافيا مركزيا في منطقة الساحل، وتقع في وسط غرب أفريقيا، تحدّها شمالا الجزائر وليبيا، وشرقا تشاد، وجنوبا نيجيريا وبنين، وغربا مالي وبوركينا فاسو. تقدر مساحتها بـ1267.000كلم2 ويقطنها أكثر من27 مليون نسمة. يعتمد حوالي 80% من سكّانها على الزراعة في غذائهم ودخلهم، والتي تسهم بـ 40% من الناتج المحلي. تمتلك سادس أكبر احتياطي لليورانيوم، وتصنّف السابعة عالميا، أي ما يعادل 5% من التعدين العالمي، وتمدّ فرنسا بنحو 35% من الطاقة النووية التي تمثل 75% من احتياجاتها للطاقة الكهربائية. ففي 2011 أصبحت النيجر تنتج النفط بمعدل 20 ألف برميل يوميا، ومن المتوقّع ارتفاع الإنتاج إلى 110 آلاف برميل خلال السنة الجارية، وبلغت صادراتها من الذهب 2.7 مليار دولار في سنة 2021، إلى جانب البذور الزيتية 344 مليون دولار، والمواد الكيميائية المشعّة 297 مليون دولار، والبترول المكرر 235 مليون دولار، واليورانيوم والثورانيوم 36.5 مليون دولار. وعلى الرغم من تنامي حجم صادرات المعادن بالنيجر سيما اليورانيوم إلا أن أكثر من 60% من الشعب يعيش تحت خط الفقر. فبينما تضيء هذه الثروات شوارع فرنسا ومساكنها، يبيت أصحاب هذه الخيرات في الظلام، بل الأخطر أن هذه الثروات تقتل الشعب النيجري، حيث أثبتت التحقيقات، وفقا للموقع “آر.أف.آي” الفرنسي، أنه تم ترك 20 مليون طن من النفايات المشعّة بعد غلق منجم كوميناك تديره شركة “أورانو” الفرنسية في مدينة أرليت بشمال النيجر، ما سبب تشوّهات خلقية للسكان وتزايد الإصابات بالسرطان والتلوث البيئي.

ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نستشف أهم الدوافع الرئيسة التي عجلت بالانقلاب العسكري الذي يصفه رجال القانون بالخروج عن النظم الدستورية والتنكّر للشرعية. وليست المقالة في مقام شرعنة الانقلاب، وإنما محاولة تشخيص الوضع في الشارع النيجري ودراسة سيكولوجية الشعب وظروفه المعيشية الصعبة التي شكلت حاضنة للانقلاب وداعمة له، للثورة على التبعية الاستعمارية، فضلا عن الدعم اللوجستي لكل من مالي وبوركينا فاسو، إلى جانب موقف الدبلوماسية الجزائرية الرافض التدخل العسكري والمقترح لمبادرات جادة، ويمكن حصر هذه الأسباب فيما يلي:

أولا، الاعتقاد الراسخ لأبناء النيجر بمسؤولية فرنسا عن مستويات الفقر وتدنّي الأوضاع الاجتماعية. ثانيا، إدراك الأفارقة أن إلزام دولهم المتبنّية الفرنك الأفريقي بإيداع أكثر من 50% من احتياطات العملة لدى بنك فرنسا، وتكفل الأخيرة بطبع العملة وتقديم القروض، هو استغلال فاحش للثروات المودعة. ثالثا، الدور السلبي لأعضاء منظمة إيكواس في القضية، والإبقاء على شعوبهم تحت رحمة مساعدات الدول الغربية، والمثال تلقّي النيجر ملياري دولار سنويا في شكل مساعدات إنمائية وفقا للبنك الدولي. رابعا، احتلال اقتصاد النيجر المرتبة 124 في العالم من حيث الناتج المحلّي الإجمالي سنة 2021، وتعتبر النيجر من بين أفقر 25 دولة وفقا لتصنيف عام 2022، فنصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي يقدر بنحو 906 دولارات.

الثابت أن انقلاب النيجر جاء امتدادا لسلسلة من الانقلابات التي شهدتها القارّة، وأطاحت التبعية الفرنسية فيها، ففي مايو/ أيار 2021، أطاح العقيد أسيمي غويتا الرئيس الانتقالي باه ناو بمالي، وانقلب النقيب إبراهيم تراوري على الحاكم بول هنري سانداغو داميبا في سبتمبر/ أيلول 2022 في بوركينا فاسو. ما جعل أصواتا من الدول الغربية تتعالى، في مقدمتها فرنسا، تطالب الانقلابيين بإطلاق سراح الرئيس بازوم والعمل بالدستور، بدعم أوروبي أقلّ حماسة، وغموض موقف الدبلوماسية الأميركية. في المقابل حضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصيا مراسم جنازة إدريس ديبي أتنو في أبريل/ نيسان 2021 في تشاد، والاحتفاء بتنصيب نجله الجنرال محمد إدريس ديبي، المنقلب مؤسّسيا على الدستور، وهذا ما يؤكده عالم الاجتماع رولاند مارشال في أحد تصريحاته. فما الذي يدفع ماكرون تارة إلى مباركة انقلابات، وشجب أخرى في أفريقيا؟

الإجابة في غاية البداهة، يؤازر ماكرون الانقلابات التي تخوضها أطراف تتفانى في خضوعها لفرنسا، ويعارض بدون هوادة الانقلابات التي تخرج عن عباءة فرنسا. وهذا ما يفسّر أيضا دعم بلاده انقلابيي السان وتارا في كوت ديفوار، وفور ياسينبي في توغو، وبول بيا في كاميرون…إلخ. فيما تعارض الانقلابات الحاصلة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر والغابون. واستنادا إلى هذه الاستدلالات المنطقية، تتعرّى سياسة فرنسا الاستعمارية التي أسست أول إمبراطورية لها في أوروبا متوسّعة في مستعمراتها باتجاه أميركا الشمالية والكاريبي والهند، والتي خسرتها على يد غريمتها بريطانيا، لتؤسّس فيما بعد إمبراطورية أخرى بأفريقيا خلال القرن السابع عشر على أنقاض الشعوب الأفريقية الضعيفة سنة 1664، ومن ثم احتلال الجزائر 1830 وصولا إلى السيطرة على نصف القارّة الأفريقية، تستنزف ثرواتها وتستعبد سكانها، ما جعلها تشيّد مفاعلات نووية عديدة لإنتاج الطاقتين، النووية والكهربائية، من يورانيوم النيجر. وفرنسا تحتل المرتبة الرابعة عالميا في امتلاك احتياطي الذهب، رغم عدم امتلاكها أي منجم ذهب. وقد أبدعت في تشييد برج إيفل بفضل الحديد الجزائري، وتستولي على الكاكاو من كوت ديفوار لصناعة شوكلاطة فريروشي الفاخرة.

وعلى مرّ التاريخ، كلما فقدت فرنسا مستعمراتٍ لها أصابها الفقر المدقع، وانهارت قوتها وصارت تتسول من الأمم المجاورة لها، أو تستجير بالإنكليز، أو الدولة العثمانية كتوسّل فرنسوا الأول من السلطان سليمان القانوني لإنقاذه من الملك شارلمان، إلى أن تتعافى وتستعيد قوتها لتعود إلى سابق عهدها المجبول على الاستعمار والاستيلاء على ثرواث الغير. وهذا ما يفسّر أيضا دعمها منظمة إكواس للمضي في خيار التدخل العسكري، رغم مآلاته الخطيرة على المنطقة من إثارة الفوضى وانتشار الجماعات الإرهابية، وتدفق اللاجئين، وتردّي الأوضاع الاجتماعية، وعدم معرفة تاريخ نهاية الحرب التي سيتم الإعلان عنها، وفصول مأساة ليبيا خير مثال على ذلك، لأن فرنسا تعي جيدا أن لا خيار لديها، فأزيد من 70% من مداخيلها تتأتى من نهب ثروات الدول الأفريقية، ناهيك عن افتقارها لمصادر الطاقة كالغاز الطبيعي. ففقدان أية مستعمرة تقويض لملكها، وإيذان بخراب حضارتها التي بنيت على تعاسة الآخرين وتجويعهم وإفقارهم.

تشهد أفريقيا اليوم مخاضا عسيرا يبشر بحياة أفضل وتحولات اجتماعية سريعة، تؤكد تنامي الوعي لدى المجتمعات الأفريقية، سيما النخبة منها، وأخذها المبادرة للتحرّر من سيطرة المستعمر الجديد المستغل لثرواتها والتفكير في مستقبل يعد بالحياة الكريمة والرفاهية، ولن يتحقق ذلك إلا بتبنّي بعض الحلول المقترحة:

مراجعة العقود الاستغلالية التي أبرمتها فرنسا مع 14 بلدا أفريقيا لدفع تكاليف البنية التحتية المنجزة في الفترة الاستعمارية في شكل ضرائب، فضلا عن مطالبتها بالاعتذار والتعويض عن جرائم القتل والإبادة الجماعية ونهب الثروات. التفكير في عملة أفريقية موحدة بديلة عن الفرنك الأفريقي الذي يطبع بفرنسا، وسحب كل الاحتياطات والمدخرات من بنك فرنسا. وثوق الشعوب الأفريقية في قدرتها على استغلال إمكاناتها البشرية والطبيعية دونما حاجة للوصاية، وإعادة النظر في سلم تصنيف الشعوب الذي تعده الدول الغربية سلفا: الدول المتطورة، النامية، السائرة في طور النمو، بناء على خلفياتها الثقافية ومفاهيمها المغلوطة. قناعة الأفارقة بضرورة استغلال الانشطار الحاصل على المستوى الدولي، بالتحالف مع قوى الشرق: (الصين وروسيا)، والتي تبحث عن موارد الطاقة والقوة المادية وهذا ما يشير إليه مختار الشنقيطي في دراسته “شروق الشرق وغروب الغرب”. القيام بثورات ثقافية ضد القابلية للاستعمار على نطاق أفريقي أوسع توحّد النظرة والبعد الاستراتيجي في إرساء وحدة استراتيجية بين دول أفريقيا، وَتُفَعّلُ التعاون الاقتصادي وتساهم في فتح الحدود وإقامة أحلاف عسكرية. إدراك الأفارقة أن الجماعات الإرهابية (تنظيم الدولة الإسلامية، القاعدة، بوكو حرام…) هي أوجه لعملة واحدة، من صناعة غربية لتدمير أفريقيا وترسيخ مفهوم” فرنسا- أفريقيا” والمحافظة على مسوّغ وجود القواعد العسكرية، ونشر الفتن وتشويه الإسلام باعتباره عاملا مركزيا لتوحيد الأفارقة، بغرض السيطرة على خليج غينيا وثروات أفريقيا، ما يقتضي التفكير في استراتيجية لتفكيك هذه الجماعات المفضوحة.

مما تقدّم، واستنادا للتحولات السياسية التي تشهدها القارّة السمراء، يتضح أن الأفارقة، بعد عقود طويلة من الإذلال والمهانة، أدركوا أن خلاصهم من قبضة المستعمر الفرنسي الذي منحهم منذ الستينات استقلالا صوريا، واستأثر لنفسه باستنزاف الثروات والخيرات، بمقتضى تفاهمات خفية مع من يتحكّم في تثبيتهم في الحكم أو إزاحتهم عند خروجهم عن فروض الطاعة، لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الطلاق البائن مع هذا المستدمر المتنكر لكل قيم الإنسانية، والثورة على كل من يسبّح بحمده، والمضي في استكمال استقلالهم المنقوص. وقد لا يتحقق ذلك إلا عن طريق انتفاضات شعبية واعية التي باتت أوثق صلة بالتحرّر والانعتاق من الديمقراطية الفرنسية المزعومة، ما يحتم على النخب الأفريقية التفكير في بدائل أكثر تحضرا للضغط على المجتمع الدولي، تفاديا للانقلابات التي قلّ ما تلتزم بعهودها، ناهيك عن إيمان الشعوب الأفريقية بحتمية التحالف مع قوى الشرق (الصين وروسيا) بديلا عن قوى الغرب لإبرام استثمارات استراتيجية متينة وشراكات ندّية بهدف تشييد منشآت قاعدية ونقل التكنولوجيا، ما يؤهلها لبلوغ المناعة الذاتية وامتلاك قرارها الاقتصادي والسياسي، بدلا من كونها مجرّد جزء من ساحة ارتطام وتنافس “كراش زون” بين القوى البحرية “الغرب”، والبرّية “الشرق” كما سمّاها عالم الجغرافيا السياسية جيمس فيرغريف.

مُختصَرُ القول، المنتظر من أفريقيا ليس استبدال مستعمر بمستعمر آخر لتحسين ظروف العبودية بقدر ما هو التحرّر التام والاستقلالية في جميع قراراتها، والتحكّم في كل مقدّراتها وثرواتها.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here