أفريقيا برس – الجزائر. في يوم ممطر يلفه ضباب كثيف وبارد جدا، وصلنا إلى مدينة تشيتا دي كاستيلو، بمقاطعة بيروجيا بإقليم أومبريا وسط ايطاليا، وكانت وجهتنا منطقة فيا براكو بمنطقة لاتينا شمال شرقي المدينة، التي يتواجد فيها أول مركز ثقافي للجالية الجزائرية في هذا البلد الأوروبي، الذي سيبدأ تقديم دروس اللغة العربية رسميا في 15 جانفي المقبل، فضلا عن أخرى في تاريخ الجزائر وأبطالها وهويتها ولاحقا تعليم القرآن الكريم لأبناء الجيل الجديد من المغتربين.
وصولنا إلى عين المكان كان بفضل مرافقنا أسامة محمد حسان، وهو طالب جزائري يدرس بجامعة بيروجيا المخصصة للأجانب وينحدر من منطقة بومدفع بولاية عين الدفلى، ومن أول وهلة بدت واجهة مقر المركز بلمسة جزائرية خالصة، من خلال الراية الوطنية وصورة مقام الشهيد واللافتة الخارجية التي تدل عليه والتي كتب عليها بلغة عربية وإيطالية “المركز الثقافي لجمعية الشباب الجزائريين في تشيتا دي كاستيلو”.
تفاصيل دقيقة ومدروسة
بمجرد الدخول إلى هذا المنبر الثقافي الجزائري، تتكشف أمام الزائر تفاصيل دقيقة توحي وكأنك في أحد فضاءات الجزائر، لا في مدينة أوروبية هادئة، فالراية الوطنية معلقة في عدة زوايا من القاعة، وإلى جانبها علم البلد المضيف إيطاليا.
وعلى الجدران، تصطف صور لعدد من أعلام الجزائر وأبطالها وشهدائها، وفي مقدمتهم مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر، يتوسطها بورتريه كبير لهذه الشخصية العالمية يفرض حضوره الرمزي، إلى جانب صور أبطال الثورة التحريرية، على غرار الشهداء العربي بن مهيدي وحسيبة بن بوعلي وديدوش مراد ومصطفى بن بولعيد وزيغود يوسف وسي الحواس وعلي لابوانت، إضافة إلى صورة “مجموعة الستة” التي فجرت ثورة التحرير المظفرة، فضلا عن صور أخرى توثق معارك من مرحلة المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم، في محاولة لربط الذاكرة الجماعية للأبناء بتاريخ بلدهم الأم وزيادة وعيهم بتاريخ بلادهم.
بعد جولتنا الاستكشافية الأولى داخل هذا الفضاء الثقافي، ومع اقتراب نهاية النهار وبداية سدول الظلام، بدأ أبناء الجالية الجزائرية في التوافد إلى المركز، جماعات وفرادى، آباء رفقة أبنائهم وشباب من مختلف الأعمار، وذلك بناء على موعد مسبق جرى تداوله عبر مجموعة “واتساب” الخاصة بالمركز.
أجواء المكان كانت جزائرية خالصة ودافئة رغم برودة الطقس في الخارج، يسودها إحساس بالانتماء المشترك والرغبة في اللقاء والتعارف وتبادل الحديث عن واقع البلاد والجالية، في مشهد قلّما يتكرر في فضاءات الهجرة.
مسؤولية جماعية تجاه الجيل الجديد
وبمجرد لقائنا برئيس الجمعية الثقافية المشرفة على المركز، جمال علاق، المنحدر من منطقة الرحمانية غرب العاصمة، كان سؤالنا الأول عن مغزى هذه التفاصيل الرمزية التي تملأ مقر الجمعية، وجاء رده مباشرا، مؤكدا أن الهدف هو أن “الذي يدخل إلى هذا الفضاء يحس وكأنه في الجزائر”، موضحا أن العناية بهذه الرموز موجهة بالدرجة الأولى لأبناء الجيل الجديد من الجالية الجزائرية.
وأضاف علاق أن الجمعية تشعر بأنها أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية تتمثل في غرس الوطنية وحب الوطن، والتعريف بتاريخ البلاد وأعلامها وأبطالها وشهدائها وهويتها، حتى يزداد ارتباط أبناء الجالية بوطنهم الأم، خاصة وأن جلهم ولد وتعلم وترعرع هنا في إيطاليا.
وعلق بالقول “شعورنا الجماعي بهذه المسؤولية دفعنا إلى تأسيس الجمعية وإطلاق هذا المركز الثقافي، الذي يعد الأول من نوعه للجالية الجزائرية في إيطاليا”، مؤكدا أن المشروع لا يقتصر على تعليم اللغة العربية فحسب، بل يتعداه إلى بناء وعي تاريخي وهوياتي لدى الأجيال الصاعدة، بما يحفظ صلتها بجذورها الجزائرية ويحصنها أكثر.
نقاشات حول وحدة الصف
بعد صلاة العشاء، امتلأ المركز بأبناء الجالية من آباء وأبناء وحتى شباب مقيم هناك، وكانت الفرصة لأبناء الجيل الجديد للتعارف والالتقاء فيما بينهم وتجاذب أطراف الحديث، وكل يعرف بالمنطقة التي ينحدر منها، مع أكلات تقليدية جلبها ابن مدينة جيجل جمال بوالنار المقيم بالمدينة رفقة عائلته.
وعرفت النقاشات التي احتضنها المركز الثقافي حضورا لافتا لأبناء الجالية، وتمحورت بشكل أساسي حول مسألة وحدة الصف كشرط أساسي لنجاح أي مبادرة جماعية تخدم أبناء الجالية في إيطاليا، حيث أجمع المتدخلون على أن تجاوز الخلافات الجانبية وترك القيل والقال بات ضرورة ملحة، خاصة في ظل وجود فئة سلبية، كما قيل، “لا تساهم ولا تدع الآخرين يعملون”، وهو ما يستوجب، حسبهم، التركيز على العمل الميداني والبناء بدل الانشغال بما يعرقل المسار.
وفي هذا السياق، شدد عبد القادر مكري، رئيس مركز الرحمة الثقافي بمدينة فابريانو، على أن وحدة الصف تمثل الركيزة الأساسية لدفع مشاريع الجالية قدما، مؤكدا أن التشرذم والانقسام لم يخدما الجالية الجزائرية في إيطاليا على مدار العقود الماضية. ودعا مكري في هذا الصدد إلى تنسيق الجهود بين مختلف المبادرات والجمعيات، بما يسمح بتكامل الأدوار واستثمار الطاقات المتوفرة لخدمة الأجيال الصاعدة، بعيدا عن الحسابات الضيقة.
من جهته، تناول الكلمة رئيس المركز الثقافي جمال علاق، مؤكدا الحرص على تأطير أبناء الجالية ومرافقتهم تربويا وثقافيا، وكشف أنه ابتداء من 15 جانفي سيشرع المركز رسميا في تقديم دروس للغة العربية، تشرف عليها أستاذة مختصة.
وأوضح علاق قائلا “مثلما تم تحديد تاريخ 25 أكتوبر 2025 لتدشين المركز الثقافي رسميا وهو ما حدث فعلا، فإن تاريخ 15 جانفي سيكون أيضا موعدا رسميا لبدء تدريس اللغة العربية”، في خطوة اعتبرها محورية في ربط الأبناء بهويتهم.
شغف من الأطفال برموز وأبطال بلادهم
كما عرفت النقاشات تفاعلا لافتا من طرف أبناء الجيل الجديد للجالية، لاسيما الأطفال، الذين عبروا جميعا عن رغبتهم في تعلم اللغة العربية وتاريخ البلاد وهويتها داخل هذا الفضاء الثقافي، حيث منحت الكلمة لهم للتعبير عن تطلعاتهم، حيث كان الإجماع واضحا على الرغبة القوية في تعلم العربية، خاصة وأنهم يتقنون اللغة الإيطالية بحكم دراستهم في المدارس الإيطالية، ما يجعل تعلم لغة الوطن ضرورة ملحة للحفاظ على التوازن الهوياتي.
وخلال تواجدنا بالمركز، تقدم منا عدد من الأطفال الجزائريين المولودين في إيطاليا، وقد بدا الفضول واضحا على محياهم، وهم يطرحون أسئلة حول مختلف الشخصيات والشهداء الذين علقت صورهم على جدران المركز.
اهتمام البراعم كان لافتا بشكل خاص بالأمير عبد القادر وبصورة مجموعة الستة التي فجرت الثورة التحريرية المظفرة، حيث حاول كل واحد منهم معرفة من يكون هؤلاء الرجال، ولماذا تحظى صورهم بهذه المكانة داخل الفضاء الثقافي؟
هذا الفضول فتح بابا لحديث معمق معهم، جرى خلاله شرح مبسط لتاريخ هذه الشخصيات ودورها في مسار الكفاح الوطني منذ بداية الاستعمار عام 1830 وإلى غاية الاستقلال عام 1962، وما قدمته من تضحيات في سبيل استقلال الجزائر وبناء دولتها، في لحظات بدت فيها الذاكرة الوطنية وهي تنتقل بسلاسة إلى جيل جديد، يتعرف بعضهم لأول مرة، وبلهفة، على رموز وطنه وتاريخ بلاده، في مشهد عكس أهمية هذا المنبر الثقافي في غرس الوعي الوطني لدى أبناء الجالية الجزائرية المولودين خارج الوطن.
وفي السياق ذاته، تم التطرق إلى مشروع رئيس الجمهورية المتعلق باستفادة أطفال الجالية من مخيمات صيفية في سواحل البلاد، وما يحمله من رمزية قوية في ربطهم بوطنهم الأم، وهو ما أكد عليه عبد القادر مكري، مضيفا أنه يجري التفكير أيضا في تنظيم مخيمات جزائرية داخل إيطاليا خلال العطل المدرسية، تكون فضاء للالتقاء والتبادل وتعزيز الروابط بين أبناء الجالية.
وختمت النقاشات بنداء وجهه الطيب بوقيدر، ابن برج الكيفان شرق العاصمة، إلى الأولياء، دعاهم فيه إلى المساهمة في استدامة هذا المشروع، باعتباره موجها في نهاية المطاف إلى الأبناء الذين يمثلون المستقبل. وأكد بوقيدر أن ربط أبناء الجالية الجزائرية برابطة قوية بوطنهم يمر أساسا عبر اللغة والهوية والتاريخ، وهي مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود ووضع اليد في اليد لضمان استمرارية هذا المنبر الثقافي الجزائري بقلب إيطاليا.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر عبر موقع أفريقيا برس





