أفريقيا برس – الجزائر. سباق ضد الزمن تشهده هذه الأيام حقول الزيتون المنتشرة بجبال وقرى ولاية بجاية، وذلك بأمل جني ثمار هذه الشجرة المباركة قبل عودة الاضطرابات الجوية، التي كانت قد علقت العملية قبل أيام، ولحسن الحظ فقد تزامنت الأيام المشرقة مع حلول العطلة الشتوية التي وفرت على ما يبدو الجو الملائم وحتى الأيادي والأنامل اللازمة لعملية الجني، بعض أصحابها قدموا من المدن بعد ما تحرر الأبناء من قيود الدراسة، ليشدوا الرحال إلى القرى التي احتضنت ذكريات طفولتهم تحت ظلال أشجار الزيتون الوارفة، بل لا شيء يجذب اليوم من هاجروا قراهم المعزولة سوى هذه الشجرة المباركة.
وتحصي ولاية بجاية العشرات من القرى المهجورة المتناثرة بقمم الجبال، والتي تنام على أطلال الأكواخ القديمة وأن لا شيء يرمز فيها للحياة بعد ما فضل سكانها، مرغمين لا مخيرين، على مغادرتها صوب المدن وذلك بحثا عن سبل حياة أفضل لهم ولأبنائهم كما هو الشأن بأعالي بلديتي بني معوش وبوجليل على سبيل الذكر لا الحصر.
وانطلق في هذا الصدد موسم جني الزيتون بولاية بجاية منذ أواخر شهر نوفمبر ويستمر على مدار ثلاثة أشهر، حيث يستهل سكان الجهة الساحلية العملية خلال شهري نوفمبر وديسمبر، فيما تمتد الحملة إلى غاية أوائل شهر فيفري بحقول حوض الصومام، والجميل في الموضوع أن الشجرة المباركة قد نجحت في لم شمل العائلات ولو لفترة وذلك بعد ما فرقت هموم الحياة أفرادها، حيث يفضل سكان العديد من القرى إعلان انطلاق موسم جني الزيتون من خلال تنظيم عادة “لوزيعة” أين يتم ذبح بعض الأغنام والثيران تبركا بخيرات الشجرة المباركة.
وبعد إعلان بداية عملية الجني – يقول أحد الفلاحين – تتجه العائلات إلى حقولها، وأن الأسر التي لا تمتلك أشجار زيتون لها أيضا نصيب من الغلة، إذ تبادر العائلات التي تمتلك عددا كبيرا من الأشجار على منح حصة من الزيت لهذه الأسر وهي صورة من صور التكافل الاجتماعي التي يحرص قاطنو القرى على التمسك بها وإحيائها وهي ذات الصور التي يعكسها أيضا التعاون بين العائلات في عملية الجني أين تتلقى الأسر الصغيرة الأفراد يد المساعدة من غيرها كون العملية بحاجة إلى أيادي عاملة كثيرة وهنا يأتي دور النساء والأطفال وحتى العجائز اللواتي يتولين مهمة تقسيم الأدوار “فهن الرأس المدبر وهن البركة” – يقول أحد المواطنين – الذي أضاف أن موسم جني الزيتون قد يُحضر معه ذكريات حزينة بعد فقدان أحد أفراد العائلة.
تنظيم دقيق وجو من المتعة والمشقة
والأكيد أن عملية جني الزيتون أضحت تسير بتنظيم دقيق يحكمه قانون الأكبر سنا، إذ لكل فرد من أفراد العائلة دوره المحدد، أين يتولى الشباب والرجال مهمة إزالة الأحراش من حول أشجار الزيتون، قبل الشروع في عملية الجني وذلك بعد نشر الشباك أو الأوراق البلاستيكية أو قماش، فيما تتولى النساء والعجائز وحتى الأطفال مهمة فرز ووضع حبات الزيتون في الأكياس، وهي عملية تحتاج إلى الكثير من الصبر والأنامل، فيما تنسي أطراف الحديث مرور الوقت، علما أن أغلب العائلات تقصد حقول الزيتون صباحا ولا تعود إلى منازلها إلا عند المساء، حيث يتناول أفراد العائلة وجبة الغداء بالحقول وسط الطبيعة الخلابة كنوع من التخييم البري وسط الأشجار المباركة بعنوان “المتعة والمشقة”، والملفت للانتباه أيضا أن بعض الوكالات السياحية أضحت تبرمج رحلاتها صوب مزارع الزيتون ما يسمح للمشاركين فيها بالوقوف شخصيا أمام هذه المتعة والمشقة من خلال مشاركتهم للعائلات عملية جني حبات الزيتون وسط تبادل أطراف الحديث وربط أواصر التعارف بين سكان المدن والقرى.
فرصة للاستمتاع بأحضان الطبيعة وجني بعض المال
وأشار أحد الشباب إلى أن موسم جني الزيتون ينسيه إدمانه بالعالم الافتراضي، بل وأضحى ينام ويستيقظ باكرا عكس باقي الأيام أين الغوص في مواقع التواصل الاجتماعي قد حرمه من النوم ما أثر سلبا على أشغاله خلال النهار، فيما أكد شاب آخر أنه يستغل فترة العطلة الشتوية من أجل جمع القليل من المال وذلك من خلال العمل بمزارع الزيتون مقابل أجرة يومية جد محترمة، والملاحظ أن النساء أصبحن يتسلقن بدورهن الأشجار رغم خطورة العملية من أجل جني حبات الزيتون بسبب ارتباطات الرجال بعملهم، فيما أكد أحد المواطنين أنه لا شغل له خلال شهري نوفمبر وديسمبر من كل سنة سوى الاهتمام بجني الزيتون، من أشجار ورثتها عائلته جيلا بعد جيل، لتجدهم منهمكين في جمع ما جادت به أشجارهم من هذا المنتج، في جو يوحي بالارتباط الوثيق بالطبيعة والعودة إلى النبع الأصيل، وأوضح محدثنا في هذا السياق، أن استقرار الطقس يساهم كثيرا في عملية الجني، رغم البرودة التي تتسم بها المناطق الجبلية.. “لكن بعد تحصيل لترات من الزيت المباركة واستعمالها في أكلنا اليومي، ننسى المشقة والتعب” – يقول المتحدث – مؤكدا أنه لم يترك أبدا أرضه حتى خلال سنوات المشقة، في الوقت الذي أكدت والدته التي كانت تجمع حبات الزيتون أن “الزيت ينحي التعب”، في إشارة منها إلى أن ملء دلاء من زيت الزيتون بعد جني الزيتون، ينسي تعب الجني كله.
وأوضحت أن شعبة “البترول الأخضر” بحاجة إلى عناية، فرغم توفر المعاصر وشق المسالك الفلاحية وكل أشكال الدعم الموجه للفلاحين، إلا أن مشكل التعبئة لا يزال يطرح نفسه لدى العائلات التي تقوم بعرض فائضها من زيت الزيتون للبيع في قارورات المياه المعدنية التي يعاد استخدامها، وهي الفرصة التي يستغلها بعض الدخلاء من أجل الثراء وذلك بتسويقهم لزيت زيتون مغشوش، ما يستدعي تشجيع الاستثمار في مجال صناعة القارورات الموجهة سواء لحفظ زيت الزيتون أو حتى العسل والتين المجفف وغيرها من الخيرات التي تأتينا من القرى، علما أن العائلات التي تمتلك أشجار الزيتون، تنتظر الحب حتى يسود لونه لجنيه وأن بعض أنواع الزيتون تكون حباته بنفسجية اللون، فمعنى ذلك أنها خالية من الزيت، فتوجه نحو الاستهلاك ويسمى هذا النوع “الجرازي”، كما هناك “بوشوك” وهو مخضر اللون ومتوسط الحبة، وهناك حبات أخرى تكون صغيرة بلونين أسود أو بني، معروفة لدى العامة بتسمية “العوام” أي أنه “يُرقّد” في الماء والملح لعدة أيام، قبل تناوله.
يشار إلى أن حرائق فصل الصيف المنقضي وبداية فصل الخريف، قد خلفت خسائر معتبرة في أشجار الزيتون، حيث لم تجد في هذا الصدد العديد من العائلات ما تجنيه بعد ما أتى اللهب على حقول بأكملها، فيما تبين أن مردود هذا الموسم أضحى جد مقبول، ما ساهم في المحافظة على سعر اللتر الواحد من زيت الزيتون في حدود الـ800 دينار و4 آلاف دينار لصفيحة الـ5 لترات.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس