محمد سي بشير
أفريقيا برس – الجزائر. زار وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، باماكو، وعقد، هناك، اجتماعات مع قادة السلطة الانتقالية لرسم معالم المرحلة المقبلة، حيث ينتظر من الجزائر ملء الفراغ الذي تركته قوات باراخان الفرنسية التي غادرت إلى النيجر، البلد الساحلي المجاور، وقدوم قوات أخرى، بالاتفاق مع سلطات مالي، روسية.
وتفسيراً لغموض يكون قد وقع في إدراك الماليين في أعقاب زيارة الرئيس الفرنسي، ماكرون، الجزائر، أخيراً، واعتقادهم أنّ ثمة شيئاً ما تم الاتفاق عليه بين باريس والجزائر بشأنهم.
بداية، نحتاج توضيح حقيقة الوضع في مالي، في الفترة الحالية، إذ انخفضت وتيرة الضغوط على السلطة العسكرية الانتقالية من الاتحاد الأفريقي ومجموعة غربي أفريقيا، بصفة خاصة، بفضل جهود ماراثونية قامت بها الجزائر لرأب صدع خلافات عميقة وقعت بين باماكو وباريس، من ناحية، وتلك المؤسسات الأفريقية، من ناحية أخرى، وهو وضع يتسم بحذرٍ كثير.
ويمكن لأيّ شرارة عملية أمنية ما من جهة ما أن توتّر الأوضاع، وتصعد من توتر لا يكاد يهدأ حتى يعود إلى الاشتعال، منذرا بمرحلة حرجة مقبلة، تحتاج حركية دبلوماسية جزائرية حثيثة.
أما التوضيح الثاني فله صلة بما يكون قد جرى، حتماً، في الجزائر، في أثناء زيارة ماكرون. ذلك أنّ الجزائر، استكمالاً لدورها، هناك، ورفعاً للبس قد يقع في فهم تحرّكاتها، سواء من الجانب الفرنسي أو المالي، فإنّ المسؤولين السياسيين والأمنيين الجزائريين شرحوا باستفاضة لنظرائهم الفرنسيين (استخبارات، عسكريون، ماكرون) مقتضيات الجوار الجزائري ومرجعيته، إضافة إلى ما يستدعيه ذلك الدور من إدراك فرنسي جديد أو متغير للدور الجزائري ومحرّكاته/ مكوّناته، وهي شروحاتٌ لازمة في مرحلة حرجة تستوجب ملء الفراغ والتحضير لاستقرار منطقة مضطربة، وبالأدوات التي ما فتئت الجزائر تنادي بها وإليها، وتحاول أن تجعلها بوصلة أيّ تحرّك تكون فرنسا قد اقتنعت به، بعد محاولة الانفراد بدور وحركية انتهت إلى ما كانت الجزائر تحذّر منه، أي انتشار الفوضى والتوتر، بدلا ممّا كان يمكن أن يحدُث لو أنّ فرنسا استعانت بالجزائر، بدلاً من كلّ تلك المبادرات الفاشلة.
يقوم الدور الجزائري في مالي على مقوّمات عديدة تنطلق من مرجعية اتفاق الجزائر بين الأزواد، تلك القبائل التي تقطن شمالي مالي المضطرب، والسُّلطة المركزية في باماكو، حيث نجحت وساطة الجزائر في التوصل إليه في 2015، وكلما وقعت مشكلة أمنية أو صراع بين شمال مالي وباماكو كانت هذه المرجعية الأساس لأيّ مفاوضات، وهي مرجعية تعيد، في كل مرّة، إلى إدراكات كلّ الأطراف، محلية كانت أم أطرافاً إقليمية أو دولية، محورية الدور الجزائري ووجوب الرُّجوع إليها، على الرّغم من مضاعفة فرنسا، منذ تدخلها بعمليتي سرفال ثم باراخان، وإنشائها جيش الخمس دول (تشاد، مالي، النيجر، موريتانيا وبوركينا فاسو)، جهودها في محاولة إبراز أن لا دور للجزائر في المنطقة، خصوصا بعد رفض الجزائر الانضمام إلى مبادرات فرنسا في سعيها إلى تحجيم مكانة الجزائر أو تقويض مقومات دورها في السّاحل.
يعترف الجميع، في مؤسّسات الاتّحاد الأفريقي أو المنظمات الجهوية، في القارّة، خصوصاً مجموعة غرب أفريقيا، بمحورية دور الجزائر ومرجعية حركيتها في أي مسعى إلى معالجة التوتر في مالي، أو ما انجرّ عن التغيير السياسي الذي حدث العام الماضي، وهو الاعتراف الذّي تأكد مع سعي دول أفريقية عديدة إلى تغيير روابطها الاستراتيجية (اقتصادية وأمنية/ عسكرية) مع باريس، مع وجوب أن يكون ملء الفراغ، في هذه الحالة، أيضاً، من الجزائر، باعتبار معطيات موضوعية، خصوصاً جوارها مع مالي، كون مالي عمقاً استراتيجياً للجزائر، إضافة إلى معرفة الجزائر العميقة بمنطقة الساحل، وعلى وجه الخصوص شمالي مالي، وهي معرفة ترتكز على مكونات أنثروبولوجية واجتماعية، لصفة خاصة.
يشير الخيار الاستراتيجي الجزائري بالارتباط بعلاقات عميقة مع روسيا إلى مقوّم حيوي يجعل من الدور الجزائري محوريا في السّاحل، بصفة عامة، وفي مالي، بوجه خاص، مع إقدام السلطة الانتقالية في باماكو على فك ارتباطاتها مع فرنسا، جلاء قوات باراخان واستعانة مالي بقوات فاغنر الروسية، ما يعني أن فرنسا تحتاج إلى دور جزائري يعمل على ضبط التوتر قريباً من النيجر، البلد الجار لمالي، وموطن الاستثمارات الفرنسية في مادة اليورانيوم، الكفيل بالتّخفيف من وطأة الفجوة الطاقوية مع قرار الأوروبيين التوقف عن الاعتماد على الغاز الروسي على خلفية الحرب في أوكرانيا.
يشير، المقوم الطاقوي، أخيراً، إلى الدور الجزائري المتصاعد في الساحل، وفي غرب المتوسّط، بصفة عامة، لأنّ الجزائر أدركت حجم التغيير الذي حدث على مستوى سوق الطاقة العالمي بتحوّل الغاز والنفط، كليهما، في الفترة الحرجة الحالية، من سلعة ريعية إلى سلعة استراتيجية كفيلة بمنح من يمتلكها، إذا عرفت كيف تستثمر فيها، بالذكاء والكفاءة العاليتين، القوة الكافية لإدراك الآخرين، فاعلين إقليميين ودوليين، بالمكانة الدولية، وبأهمية الأدوات التي بأيدي الجزائر، الآن.
يشير هذا المقوّم إلى استراتيجيتين جزائريتين. أولاهما، محاولة الاستفادة القصوى من التحول المذكور لإقناع الآخرين بدور جزائري محوري قد تكون الحالة المالية، الآن، من أولى تداعيات الموقف الجديد مع التفاهمات الجديدة الجزائرية الفرنسية، وهي الاستفادة التي قد تتمدّد لتكون الأساس في تفاهماتٍ بشأن أزمات المنطقة، بكلّ أشكالها.
الثانية، لها صلة بالمشروع الجزائري لنقل الغاز النيجري مروراً بدول ساحلية، وفي مقدمتها مالي، ليكون تأمين المنطقة، بدور جزائري كبير، أساسه مرجعية اتفاق الجزائر، ثم منح الدور الجزائري المكانة المحورية في عقد تفاهمات بشأن توتّرات الساحل الحالية. وهذا المشروع هو الصورة المستقبلية لذلك الدور ولتلك المكانة المتصاعدتين، ليس في الساحل فقط، بل أيضا في الإقليم الذي يشمل، استراتيجياً، غرب المتوسط والمنطقة الساحلية – الصحراوية.
تشير تلك المقوّمات، عند النظر إليها بشكل شامل، إلى حقيقة استراتيجية جديدة في حاجة، حتماً، إلى دور جزائري لا يمكن، بدونه، على خلفية فشل الحركية الفرنسية من قبل للتعامل بعيداً عنه.
طبعاً، النجاح في حلّ كلّ معضلة أيّاً كان نوعها، ويشمل ذلك ليبيا ومالي والفضاء الجيو السياسي المشار إليه. وممّا يدلّ على تصاعد ذلك الدّور حجم (ونوعية) الزيارات التي قام بها الفاعلون إلى الجزائر من دول (تركيا، روسيا، أميركا، فرنسا… إلخ) ومنظمات (المجلس الأوروبي، المسؤول الأميركي عن حلف الناتو، مسؤولون عسكريون رفيعو المستوى من روسيا… إلخ)، وهي حركية يتّفق المحللون على أنّها من مؤشّرات تحول تلك المكانة والحاجة الملحّة استراتيجياً إلى دور جزائري يتناسب مع تلك المقوّمات لحلّ المعضلات، ضبط توترات الإقليمين المشار إليهما، إضافة إلى المشاركة في معالجة مأزق الطاقة الحالي، وبخاصة في جوار الجزائر المباشر، أوروبا.
هذا هو واقع الدور الجزائري في مالي، مستقبلاً، بمرجعيات اتفاق الجزائر، الدور والمكانة الجديدتين للجزائر في المنطقة، إضافة إلى التفاهمات المعلنة أخيراً بين باريس والجزائر، ما يوحي بأنّ حلّ المعضلة المالية قريب، وبأنّ المقاربة الجزائرية المزاوجة بين الأداتين الأمنية والاقتصادية، كفيلة بعودة السلم والاستقرار إلى منطقة الساحل، العمق الاستراتيجي لبلد بدور ومكانة تتناسب مع إمكاناتها الكبيرة، الجزائر.
كما يمكن القول، أيضاً، إنّ ما سبق هو المعنى الحقيقي لمهمة ملء الفراغ الذي يستدعي فهمه الإحاطة بتلك المقومات وبتلك التحولات التي تنخرط الجزائر فيها، بما يمكن اعتباره عودة إلى حقيقة الوضع وتصحيحاً لاختلال سابق كانت أسبابه داخلية وخارجية بضغط فرنسي، على وجه الخصوص.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس