أفريقيا برس – الجزائر. قد يظن بعضُهم أن تمسّك الحكومات العربية بمسألة “السلام خيار استراتيجي”، وما أضيف إليها من “أهداف” مثل “حماية المدنيين من الطرفين” و”خفض التصعيد” و”مبادئ أوسلو” وغيرها، هي من قبيل الأوهام المماثلة للوهم الذي تورده قصة الرجل الذي كان يعتقد واهماً أنه يحمل فوق رأسه إناءً فيه زيت مغلي، ومن ثم فهو غير قادر على الحركة، والذي لم يتراجع عن أوهامه هذا إلا عندما كسر شخصٌ ذكيٌ إناءً فيه زيت مغليّ من وراء ظهره. الواقع أن حالة الحكومات العربية أصعب بكثيرٍ من هذا.
لقد تمكنت المقاومة الفلسطينية المسلحة والمحاصرة عبر عملية طوفان الأقصى من تحقيق عدة مكاسب استراتيجية، أهمها كسر نظرية الأمن الإسرائيلية ونقل المعركة، أول مرّة، إلى الداخل الفلسطيني المحتل، وإحياء الأمل في تكبيد المحتلّ خسائر عسكرية تردعه، ما ساعد في إعادة بعض التوازن لمعادلة الصراع المختلّة لصالح دولة الاحتلال. في المقابل، لم يحقّق “مسار التسوية السلمية” الذي رفعته الحكومات العربية أي مكاسب توازي هذه المكاسب، ولم تستثمر في مكاسب المقاومة في السابق، ولا يبدو أنها ستستثمر اليوم في مكاسب “طوفان الأقصى”.
بوصلة الحكومات العربية معطوبة منذ عقود، وتقوم سياستها الخارجية على مغالطاتٍ قاتلةٍ صار ناسٌ كثيرون يفهمونها على أنها تصل إلى حد التواطؤ، كما تظهرها المناقشات على وسائل التواصل الاجتماعي، المتنفّس الوحيد الذي يمكن من خلاله معرفة نبض الشارع العربي الحقيقي.
هذه البوصلة المعطوبة يكشفها البون الشاسع بين المصلحة الوطنية للسياسات الخارجية التي تمارسها الحكومات العربية وما يراه الناس مصلحة وطنية تعبّر عن جوهر الصراع، وكذلك البون الشاسع بين الأدوات التي تستخدمها هذه الحكومات في سياساتها الخارجية وعوامل القوة المتاحة لها.
أولاً، تفهم الحكومات العربية معادلة الصراع بشكلٍ مختلّ، وبالتالي تحدّد مصالح وأهدافاً غير حقيقية، فالصراع في فلسطين لا يُحلّ عبر تحويله إلى “نزاع” على أرضٍ كما رسخته الإدارات الأميركية منذ الرئيس كلينتون في البيت الأبيض واتفاقيات أوسلو، ولا من خلال تحديد أهداف مثل “تحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين”، أو “خفض التصعيد”، أو “العودة إلى مسار التسوية”، بعد أن صارت العودة إلى هذا المسار هدفاً في حد ذاته للاستمرار في التفاوض الذي صار بدوره هدفاً يُسعى إليه!
نعم، يقول الكل تقريباً إن الغاية هي “إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967″، لكن السياسات الخارجية الفعلية للحكومات العربية تعرقل، في واقع الأمر، تحقيق هذه الغاية، لأنها تحقّق لدولة الاحتلال مكاسب مجّانية وتمكّنها من تغيير الحقائق على الأرض، ومن ثم ترسيخ الاحتلال. وليس أدلّ على ذلك من أن ما تسمّى اتفاقيات أبراهام وُقعت بعد أن توسّع الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967 وبحيث أصبح الحديث عن دولةٍ هناك من الأمور المستحيلة عملياً، وأيضاً بعد عقودٍ داميةٍ اكتفى العرب فيها بالإدانة وبعض الدعم المادي (قتل أكثر من 9000 فلسطيني من 2000-2022، منهم أكثر من 4844 فلسطينياً من 2000 إلى 2008، وأكثر من 4200 فلسطيني هم ضحايا الحروب التي شنّها الاحتلال على غزة في أعوام 2008، 2012، 2014، 2019، 2021، و2022، هذا بخلاف شهداء العقد الماضي في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني).
يبدأ ما على الحكومات العربية فعله للسير في طريق انتزاع الحقوق المشروعة لشعب فلسطين من إعادة تعريف الصراع على حقيقته، ورفع سقف المطالب وفتح الملفّات الكبرى مع الإسرائيليين، وذلك من أجل دفعهم دفعاً إلى الدفاع عن النفس وتقديم تنازلاتٍ حقيقية. جوهر الصراع هو تفكيك “الصهيونية”، أي تفكيك صفتي العنصرية والاستعمارية لدولة الاحتلال، وهذا يُحتم المطالبة بستة أمور على الأقل: الاعتراف بالحقوق المشروعة الفلسطينية، بما فيها حقا تقرير المصير والعودة وإنفاذهما، تفكيك جميع المستعمرات اليهودية، إلغاء القوانين والإجراءات العنصرية ضد غير اليهود داخل فلسطين المحتلة عام 1948، دفع تعويضات عن الانتهاكات التي ارتكبت منذ 1948 وفي ظل الاحتلال بالضفة الغربية وغزّة والجولان وسيناء، وقف تهويد القدس وغيرها من المدن، وفكّ حصار غزّة وإعادة بناء آلاف المنازل المهدّمة وإعادة الأراضي المنهوبة. ومن الأهمية أيضاً إعادة ربط جميع قضايا الصراع وتوحيد المطالب العربية تجاه المحتلّ في مسار واحد، فقد كان من أبرز مساوئ اتفاقيات التسوية مع مصر والأردن ومنظمة التحرير تقسيم قضايا الصراع إلى مساراتٍ منفصلة.
إذا أديرت السياسات الخارجية العربية حول هذه المطالب، فستعبّر فعلاً عن المصالح الوطنية لها، وتكون حقّاً قد استثمرت المكاسب الأخيرة للمقاومة العسكرية في الاتجاه الصحيح. ومن دون هذا، لن يُكتب لأي سياسة خارجية النجاح، بل والأخطر أنها تُسهم في ترسيخ الاحتلال، تماماً كما فعلت اتفاقياتُ التسوية من قبل. وهذا النوع من الدبلوماسية موضوعي وواقعي، وعلى أساسه طُبِّقَت حلولٍ مشابهة بمناطق أخرى كجنوب أفريقيا وأيرلندا، وهو يضمن ألا يكون التنازل من طرفٍ واحد فقط، ويتناسب مع ما يمتلكه العرب من ثرواتٍ وموارد وخبرات.
ثانياً، تفرّط الحكومات العربية، وهي تدير سياساتها الخارجية، في عوامل القوّة التي تمتلكها. وليس الحديث هنا عن تحريك الجيوش أو التلويح بها، فهذا أمرٌ لا يمكن أن نطلبه من جل حكوماتنا بوضعها الحالي، وهي التي تفشل في أمور صغيرة، كتنظيم المرور أو توفير الخبز للناس أو إدارة كارثة طبيعي، وإنما الحديث عن أدوات الدبلوماسية الناعمة والاقتصادية. لا يستند التأكيد أن “السلام خيار استراتيجي” إلى أي عوامل قوة تدعمه وتضغط من أجل تحقيقه. وعلى النهج نفسه، تأتي ادعاءات أخرى مثل أن “التطبيع” هو الوسيلة الأفضل للتأثير لصالح القضية، وهكذا.
إذا تأكّدت دولة الاحتلال من أن الحكومات التي تقيم معها علاقات دبلوماسية لا تفكّر في إعادة النظر في هذه العلاقات (بالمستويات المعروفة في عالم الدبلوماسية: التلويح بأنها ستتأثّر، التلويح بتجميدها، التلويح بقطعها، أو تجميدها أو قطعها فعلاً …)، فلماذا تفكّر، مجرّد التفكير، في تقديم تنازل ما هنا أو هناك؟ وإذا أدركت الدول الغربية التي تحتضن دولة الاحتلال بأن الحكومات العربية لن تستخدم أبداً سلاح النفط أو الاستثمارات أو التجارة للضغط أو حتى مجرّد التلويح باستخدامه، فلماذا ستفكّر هذه الدول الغربية في إعادة النظر في سياساتها المزدوجة تجاه الصراع في فلسطين؟
ولماذا ستضع دولة الاحتلال على سياساتها العدوانية المستمرّة أي قيدٍ من القيود التي يضعها القانون الدولي على الدول المتحاربة، وهي التي تعوّدت تقاعس الحكومات العربية عن الدفاع عن حقوق شعب فلسطين المشروعة وعن ملاحقة مرتكبي المجازر الإسرائيلية أمام المحاكم الدولية؟ إن لسان حال القادة الصهاينة هو “لقد قتلنا عشرات آلاف من الناس في غزّة والضفة من قبل، بل ولاحقنا مئات القيادات الفلسطينية والعربية المناصرة لفلسطين في الخارج وقتلناهم، وهدمنا البيوت وجرفنا المزارع وهدمنا المساجد ولم تحرّك الحكومات ساكناً، اللهم إلا آلة الكلام التي تدين وتشجب وتستنكر”. وهكذا يمكن الاستمرار في الحديث عن كل الانتهاكات التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين ولبنان وسورية وفي تونس ومصر والأردن والعراق والسودان من قبل.
القول إنه لا بدائل لمسار التسوية السلمية أكذوبة. كانت هناك في السابق خيارات عدّة ولا تزال قائمة، ويمكن للحكومات استخدام أدواتٍ مثل تقوية المقاومة بجميع صورها والاستثمار الدبلوماسي في مكاسبها، وتعزيز كل صور المقاطعة الاقتصادية، وتوحيد الصفّ العربي، والعمل على فضح أسس دولة الاحتلال والأبارتهايد وحصارها في كل المحافل الدولية ومقاضاتها أمام المحاكم الدولية والأجنبية، وزرع ثقافة المقاومة بجميع صورها وأشكالها في مناهج التعليم في المدارس والجامعات وفي الإعلام، ورفع سقف المطالب والمبادرة بسياساتٍ تُحاصر العدو وتطالبه بالتعويض عن اعتداءاته المتكرّرة، هذا بجانب سحب السفراء العرب من دولة الاحتلال وطرد سفراء الاحتلال من العواصم العربية.
وفوق هذا كله، كان من الممكن التقوية بالشعوب وإقامة نظم حكمٍ وطنيةٍ تختارها وتحاسبها الشعوب وتستند إليها الحكومات في بناء سياساتٍ خارجية مؤثّرة فعلاً. المشروع الصهيوني متعدّد الأدوات، وقد قام بحدّ السيف وبطرق دبلوماسية أخرى، كالخداع والتآمر والتأثير في حكومات الدول الكبرى وابتزازها، ولهذا لا بد أن تكون مقاومته متعدّدة الأدوات أيضاً، وهزيمته عسكرياً ممكنة، وهي تستلزم مواجهته على كل المستويات، وباستخدام كل الأدوات الممكنة والمتاحة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس