أفريقيا برس – الجزائر. لا شك أن إقدام السلطات الجزائرية على تقديم ملف لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، “اليونيسكو”، لتصنيف “قندورة القطيفة” القسنطينية، كتراث محمي نهاية شهر مارس من السنة الماضية، لم يكن عبطيا أو عشوائيا.
والواضح أن هذا التراث اللامادي بات يسيل لعاب جهات أصبحت اليوم بائنة جلية بغرض السطو عليه ونسبه زورا وبهتانا لبلد مجاور، وبأساليب خفيّة، يحاول مد يده بسرقة تراث، يجمع بأصالته بين الثقافة والحضارة، وتغوص صناعته في عمق التاريخ، بعشرات القرون من الزمن، الذي تتشابك فيه هذه المقومات لتصنع منه تراث وإرث وطن.
لأجل ذلك، جاءت خطوة “اليونيسكو” مدروسة، من أجل كبح ورد محاولات من لا ثقافة لهم، من الذين يقتاتون من ثقافات وتقاليد الآخرين.
“قندورة” قديمة بسعر غال بالعملة الصعبة!
ما وقفت عليه “الشروق” مؤخرا، وفي الحقيقة الأمر يعود لسنوات، هو عشرات الإعلانات والمنشورات عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي من “فايس بوك” و”أنستغرام”، وغيرها، والتي تروّج بشكل غامض يكتنفه الكثير من اللبس والريبة في مأربه، حول إعلانات لشراء “قندورة القطيفة” القسنطينية القديمة، التي يرجع زمن صنعها لسنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بأسعار مغرية تصل لعشرات وربما لمئات الملايين من السنتيمات وبمختلف العملات الأجنبية.
وبالتحقيق والتحري بما يتيحه العمل الصحفي الاستقصائي، وقفت “الشروق” على هدفين من الترويج لهذه الإعلانات، أولها أن هذا اللباس الملكي القديم والذي تدخل في صناعته الأساسية خيوط الذهب الخالص، والتي يسعى البعض لجمع هذه الألبسة التقليدية القديمة، لاستخلاص تلك الخيوط الذهبية، ومن ثمّ، إعادة بيعها للصاغة، أين اكتشفنا أن المادة الأولية القديمة المستعملة في تطريز “القندورة” القسنطينية، كانت تضم، بالفعل، خيوطا من الذهب الخالص خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، عكس المادة الرائجة حاليا في هذه الصناعة والتي في الغالب من “الإينوكس” و”البلاستيك” الشبيه بالذهب، أو كما يسمى محليا “المشلل بالذهب”.
فيما قادنا التحقيق لهدف خبيث ثان، وهو وقوف جهات خفية حول هذه الإعلانات المريبة، أي عملية سطو على التراث، لنقف على أن الجهات المعلنة مجهولة، وحتى بتسمياتها المختلفة ما هي في الحقيقة إلا أدوات للوصول لأقدم القندورات التي لا يهم فيها السعر إن كانت حقيقة قديمة، لتسقط الفرضية الأولى بذلك، بدليل واحد أنه مهما كان مقدار الذهب المحصل منها، فإنه لن يصل أبدا للسعر المقدم في القندورة، وهو ما أثارنا لمواصلة التحقيق في هذا الموضوع.
وبالتفحص والتدقيق، وجمع المعلومات، تمكّنا من الوقوف على عشرات الحصص المبثوثة على قنوات فضائية لدولة المغرب، وهي تروّج لألبسة تقليدية جزائرية مئة بالمائة، على أنها تراث لهذا البلد، وما جعلنا نربط تلك الإعلانات الفايسبوكية بالخصوص حول شراء “القندورة” القسنطينية لفترة السبعينيات والثمانينيات هو استدلال مقدمي تلك البرامج وضيوفهم، على أنها لباس تقليدي قديم لتلك البلاد لبسته نسوته، وسط خلط في الوصف بما لا يمت لهذا اللباس بواقع، بل وحتى التسمية تم تحريفها، ما يؤكد منهاج السطو واللصوصية على تراثنا، أين اختلفت عندهم التسميات بين “الجبة” و”الكسوة” و”الموبرة”.. وغيرها، لندرك تمام الإدراك أننا أمام عملية سرقة مع سبق الإصرار والترصد، لتراث وهوية وطن وأمة ومدينة عمرها قارب الثلاثة آلاف سنة، يستغل فيها سذاجة البعض بالقيمة التاريخية والتراثية لقندورة الأم أو الجدة أو ربما ترجع بالأثر لجدات الجدات.
فمعلومات مؤكدة تشير إلى أنه من العائلات القسنطينية من تمتلك نسوتهن ألبسة تقليدية تغوص في التاريخ لقرون مضت وولت، وليس فقط لفترة السبعينيات والثمانينيات.
أصحاب الصنعة: “مهما حاولوا.. فالأصالة تغلب تطبعهم”
“الشروق” اتصلت بالمصمم الشهير فؤاد عزي صاحب دار “عزي” لـ”القندورة” القسنطينية، وهو مصمم قندورة الروائية أحلام مستغانمي، أين أكد أنه إن كان من المعلوم وجود محاولات سطو على التراث القسنطيني والجزائري عموما، إلا أنه من الأكيد أن التاريخ معلوم، فـ”قندورة القطيفة” القسنطينية متأصلة في قسنطينة صناعة ولباسا.
مبرزا في ذلك، أنه حتى وإن حاول هؤلاء الطفيليون نسب ما ليس لهم، ليكون لهم، فالأكيد أن صناعتها سواء “القندورة” أو “الملحفة” أو “قفطان القاضي”، أو غيرها، لها أسرار تقنية مكتسبة، يستحيل على أيّ كان أن يضبطها أو يحوزها، سواء في التصميم أو الإنجاز، فتعلم الصنعة لا يكفي لاكتساب المهارة، التي تستلزم أصلا فنا وثقافة لدى الصانع لإنجاز “القندورة” القسنطينية، والتي لن تتأتى في التصميم والإنجاز إلا لمن أبحر وغاص في عمق ثقافة وتاريخ قسنطينة.
كما أبرز السيد الهادي بن جلول، صاحب دار “بن جلول” للأزياء التقليدية القسنطينية، التي وصلت قندورتها إلى أمريكا وأستراليا، أن “قندورة القطيفة” هي تأريخ مدينة، تحمل هويتها بين تلك التطريزات التي تتفرد قسنطينة بها، وأيضا تنفرد بتصميماتها التي ترمز في طياتها للحضارات المتعاقبة عليها، مؤكدا أنه كسليل لعائلة بن جلول، قدّم مجموعة من الألبسة الأصلية لمتحف “الباي” بقسنطينة هبة من عائلته يرجع تاريخ صنعها لمئات السنين، وعن حرفة صناعة القطيفة، أوضح أنه ورثها عن جده الذي كان يزاولها بمحله في رحبة الصوف وسط المدينة العتيقة، وصنعة “المجبود” قبل فترة السبعينيات كان الرجال هم من يتكفلون بمزاولتها، وهي الصنعة التي تجتمع فيها المعرفة بالفن والثقافة والكثير من الحب لقسنطينة.
“القندورة” القسنطينية ترجع إلى ما قبل الحقبة العثمانية
ويلخص الأمر السيد محمد بن ناصف، رئيس جمعية “أصدقاء متحف سيرتا”، الذي يكشف أن تاريخ “القندورة” القسنطينية لا يرجع فقط للحقبة العثمانية في الجزائر، بل يمتد لعمق التاريخ بآلاف السنين، وهو ما كان موضوع مساهمته في ملف القائمة التمثيلية للتراث الثقافي الغير مادي للبشرية لدى “اليونيسكو”، حول أن أصل ألوان “قندورة القطيفة” القسنطينية، وبالبحث المتعمّق من طرفه، وصل فيه أن اللون الأرجواني أو العنابي أو الأحمر الخمري هو لون خصّ به الأمراء الرومانيون الذين تعاقبوا على حكم سيرتا القديمة، ومن خلاله عامة الشعب الذين يقتدون بالساسة والحكام في نوع اللباس واللون وطرق الحياة عموما.
فإن كان الباحث بن ناصف أكد أن اللون يعود بالأصل لأزيد من ألفين سنة، فالأكاديمية والباحثة في الأنثروبولوجيا الدكتورة هدى جباس، قد أكدت بأن “القندورة” القسنطينية، “هوية جمال وتاريخ، وأن المادة النسيجية الأصلية في “القندورة” القسنطينية هي مادة المخمل الجلوي، التي يرجع أصلها لمنطقة جنوة بإيطاليا”، وهي أصل القماش المسمى محليا جلوة بعد تحريفه وإبدال مكان النون لام، مبرزة بأن “القندورة” القسنطينية هي نتاج تداخل عديد الحضارات التي مرّت على قسنطينة، وورثت في كل مرحلة منها تقنيات وفنون تداخلت فيما بينها لتشكّل هذه التحفة، مبرزة أن الفن والتقنيات التركية إبان الوجود العثماني ما هو إلا امتداد لها.
ومن جهتها، أكدت عائلات عريقة بقسنطينة، أن “القندورة” القسنطينية أو “قندورة القطيفة”، إرث متوارث منذ مئات السنين، تحتفظ به نسوة العائلات العريقة ضمن الحلي ويتوارثنها جيلا بعد جيل، شأنها شأن الحلي والمصوغات، حيث أبرزت السيدة بن جلول نسيمة، وهي سليلة لعائلة بايات قسنطينة، أن “قندورة القطيفة” هي أصيلة قسنطينة ولا يمكن أبدا أن تستأصل من منبع نشأتها وتطورها، وهي جزء من هوية المدينة وعائلاتها العريقة بامتداد زمني يرجع لقرون، مبرزة أنه يستحيل الحديث عن “القندورة” بدون أن نتكلم عن المميزات الخاصة والمرافقة لها، مثل “الشاشية” وهي مرافقة “قندورة القطيفة”، وهي قبعة للرأس بشكل مخروطي مطرز بالذهب، تكون مائلة حين لبسها على الجهة اليمنى، وهي منمقة بالعملات الذهبية من” اللويز” و”السلطاني”، مثبتة على الذقن بخيط “القيطاني” الذهبي المشهور محليا باسم “العلاج” والذي يكون مرصعا بالمجوهرات، ولا يمكن أن تتم المرأة القسنطينية لبسها لـ”قندورة القطيفة” دون حذائها الأصلي المعروف بـ”الصباط المجبود” وهو حذاء من النوع الفاخر، مطرز بخيوط الذهب ومرصع أيضا بالجواهر والعملات الذهبية، لتكتمل زينة “قندورة القطيفة” بـ”الذراية” التي توضع فوق الرأس و”المراوح” التي تغطي اليدين، والمصنوعة من الحرير الشفاف المنمق بخيوط الذهب، كما أن “القندورة” في حد ذاتها مرصعة على مستوى الصدر وذيلها بـ”اللويز” الذهبي مقداره يكون حسب قدرة صاحبة “القندورة”.
..بدون نسيان “الجوزية” وأخواتها
الأخطبوط المخزني، الذي يريد التهام التراث الجزائري، لم يتوقف بين أسوار البلاط الملكي، بل امتد إلى العديد من البلدان، وفي العديد من القارات، من كندا إلى بلجيكا ودول الخليج العربي، وفرنسا على وجه الخصوص، فتراهم كلما سمعوا عن عرس عائلي جزائري، يعني زواج أو ختان، إلا وقدّموا أنفسهم كمدعوين باسم الجيرة والأخوة، وهناك تبدأ العملية الكبرى في التقاط صور الحاضرين والحاضرات بلباسهن التقليدي، ولا يقتصر الأمر على “القفطان” و”قندورة القطيفة” القسنطينية و”خيط الروح”، بل يتعداه إلى الوجبات الغذائية الشهيرة حيث لا يكتفون بعمليات التصوير، وإنما بطلب طريقة التحضير، ويُصدم الجزائريون والجزائريات بين الحين والآخر بمشاهد غريبة لمن يدعون بأنهم أكبر طهاة المغرب وهم يقدمون أطباقا جزائرية، لم تتوقف عند منطقة الغرب الجزائري من تلمسان ووهران، بل عرجت إلى الأطباق القسنطينية التقليدية التي لا علاقة لها إطلاقا بالأطباق المغربية، وقد طالت السرقة أطباق “المشلوش” و”المحوّر” و”طاجين الشواء” و”شباح السفرة” و”التريدة” القسنطينية، وحلويات “القطايف” و”طمينة اللوز” و”الجوزية”، بالرغم من أن الأصل يفضح التقليد دائما، وهو ما يجعل “اليونيسكو” حلا لتوقيف جشع هؤلاء.
للأسف، هناك فنادق مغربية في مراكش والرباط وأغادير، لا تكاد تتنفس سياحة إلا بالموروث الثقافي الجزائري، فتجدها تقدّم لزوارها أطباقا جزائرية ويظهر عمالها وعاملاتها بألبسة تقليدية جزائرية، وحتى الحفلات التي تقيمها في فنادقها ومركباتها السياحية، عبارة عن ترديد ببغائي لأغاني الشاب حسني والشاب عقيل والشاب نصرو، والمؤسف أنها تتبناها وتزعم بأنها مغربية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس