الجزائر: «الراب» في أنفاسه الأخيرة

9
الجزائر: «الراب» في أنفاسه الأخيرة
الجزائر: «الراب» في أنفاسه الأخيرة

سعيد خطيبي

أفريقيا برس – الجزائر. إذا فشلت في الموسيقى، فبوسعك أن تصير نادلاً في مقهى» هكذا يُقال. أما في الجزائر، «إذا فشلت في الموسيقى، فبوسعك أن تصير مغني راب». فبعد أكثر من ثلاثين سنة على ظهور هذا النوع الفني، في الجزائر، شرع شيئاً فشيئاً الدخول إلى قبره، وقد تعددت الأسباب. لم نعد نسمع أغنية راب في الإذاعة، ولا التلفزيون، لا حضور للرابرز في المهرجانات ولا في السوق. حياتهم لم تعد تتجاوز حضوراً محتشماً في السوشيال ميديا، أو في مواقع التحميل، مع أرقام مشاهدة، يخجل المغني نفسه من ذكرها، بل إن من مغنيي الراب من فضل القفز من المركب قبل أن يغرق، والتحول إلى أنماط موسيقية أخرى. «الراب» الذي وُلد كبيراً في جزائر نهاية الثمانينيات، لم يعد أكثر من ذكرى في عقول الشباب.

ولادة صاخبة

خريف 1988، اشتعلت المظاهرات في الجزائر العاصمة، وردت عليها السلطة بالرصاص والنار. سقط قتلى ورائحة القنابل المسيلة للدموع ظلت تحوم في الأرجاء أكثر من أسبوع. في تلك الأجواء سوف يلتقي ثلاثة شبان لم يتجاوزوا الخامسة عشرة من عمرهم، ويشكلون فرقة «أنتيك» (بالعامية تعني: بخير). هكذا وُلدت أول فرقة راب في الجزائر، سمت نفسها (أنتيك) في رد ساخر على الوضع الملتهب حينها. فرقة جعلت من موسيقى الراب بوصلتها، في استعادة رِتم وأداء ربرز فرنسيين، وأقلمت نصوصهم مع الحالة الجزائرية، أو بالأحرى «جزأرة» الراب الفرنسي. كثيرون نسوا اسم هذه الفرقة اليوم، والسبب أن «أنتيك» اكتفت طوال أكثر من عشر سنوات بالغناء في حفلات وفي قاعات مغلقة، دون إصدار أي ألبوم. أول ألبوم للفرقة تأخر صدوره إلى عام 1999، سُجل في فرنسا، ولم يوزع في الجزائر، ما عجل بموت «أنتيك» دون أن ينقص من قيمتها كأول من أسس موسيقى الراب في البلاد. بالتالي فسحت المجال أمام فرقة أخرى، ظهرت عام 1993، اسمها: «أم. بي. أس» (أو ميكروفون يكسر السكوت). فرقة أخرى من الجزائر العاصمة، تشكلت من أربعة مراهقين، بقيادة رابح وراد، ما يحسب لها أنها ضمت اسماً خامساً انضم إليها لاحقاً، وهي هجيرة فزوي (ستكون أول وآخر مغنية راب في الجزائر، ما تلاها لم يكن أكثر من مغنيات هاويات يظهرن فجأة ويختفين فجأة). عام 1997 سوف تصدر هذه الفرقة أول ألبوم لها بعنوان: «أولا البهجة» لكن ما صنع شهرتها أن الإذاعة الوطنية (القناة الثالثة) سوف تبث أغانيها، من يومها صارت «أم. بي. أس» بارومتر موسيقى الراب في الجزائر، وكسبت الآلاف من المستمعين ومن المحبين. عام 1998 أصدرت ألبوم «العوامة» وسجلت أول فيديو كليب راب، يبث في التلفزيون الجزائري. قبل أن تنتقل (أم. بي. أس) إلى تسجيل أعمالها مع أستديو (يونيفرسال) في باريس. هكذا إذن ولد الراب في عاصمة البلاد، لكن في الحقبة نفسها سوف تظهر أيضاً فرقة أخرى شرق البلاد، في عنابة، جمعت في البداية ثلاثة شبان، انسحب أحدهم وبقي اثنان: وهاب ولطفي، أطلقا على الفرقة اسم: «دوبل كانون». يفسر البعض هذه التسمية بمعنى (مدفع مزدوج) بينما الأصل أن كلمة (كانون) في العامية تعني لفافة حشيش، فقد جعلت هذه الفرقة من قضايا البطالة، المخدرات والجريمة موضوعات لها، وأصدرت عام 1997 ألبوم «كاميكاز» ثم سرعان مع هاجر وهاب إلى فرنسا، وظل لطفي وحيداً، واصل المسيرة نفسها، دون أن يغير اسم الفرقة، على الرغم من أنه ظل مغنياً منفرداً. بعد هذه المرحلة الأولى، وبدءاً من 1998، سوف تتعدد فرق الراب، من شرق البلاد إلى غربها، لم يعد الراب تابو في الميديا الحكومية، بل كانت الفرق تستدعى إلى المهرجانات الصيفية. بين 1988 و2010، عاشت موسيقى الراب أزهى أيامها، قبل أن تشرع في الانحدار إلى حد الاختفاء.

من الفرقة إلى المغني الواحد

أولى التحولات التي عرفها الراب، بدءاً من 2010، هو نهاية زمن الفرقة، والانتقال إلى زمن المغني المنفرد. لم يعد المغني يهمه العمل الفني بقدر ما يهمه إشباع غروره، هو من يكتب الكلمات، هو من يمزج الموسيقى، هو من يؤدي وحيداً، وهو من يظهر وحده في الفيديو كليب، بالإضافة إلى انقطاع الصلة بين جيل المؤسسين ومن تلاهم، فالفرق التي ذكرناها أعلاها انتهى بها الأمر إلى الهجرة إلى فرنسا، مع العجز عن منافسة الفرنسيين، ما عجل في نهايتها، وترك الساحة المحلية تموج في الارتجال. ما يُعاب على الراب في الجزائر أنه يصر على التوجه إلى فئة عمرية محددة، إلى جمهور تتراوح أعمار أفراده ما بين 10 و25 سنة. بالتالي مع تقدم المغني في العمر يشعر بالفارق الذي يفصله عن جمهوره، مع عدم قدرته على الانسجام معه ولا على فهم المفردات الجديدة، أو الوضع الجديد، فموسيقى الراب لا تتكل على التلحين، بل على الكلمات، وعلى محاكاة واقع المراهقين. الراب يدور في الدرجة الصفر من الموسيقى، لا يهم أن يكون الشخص عازفا ولا متعلما، ولا متمرساً في الآلات، بل يحتاج فقط إلى كتابة كلمات، هذا ما سهّل صعود هذه الموسيقى في وقت قياسي، وسقوطها في وقت قياسي أيضاً. فتكلفة إنجاز ألبوم راب لا تساوي سوى الفتات مقارنة بتكلفة إنجاز ألبوم روك أو راي. إزاء هذا الوضع، صار المغنون الجدد لا يفكرون مطلقاً في الأستديو والتسجيل، بل يكفيهم إطلاق أعمالهم في منصات التحميل على الإنترنت، لكن مع القرصنة، فليس بوسعهم التفكير في عائدات مادية، أمام هذا الوضع التقني المتعسر، لا أحد بات يفكر في المغامرة صوب الراب. هذه الموسيقى التي ولدت في غيتوهات الزنوج الأمريكية كخطاب معارض للسلطة السائدة، تحولت في الجزائر إلى خطاب مُدافع عن السلطة، انزاحت عن مسارها الذي خلقت من أجله، على الرغم مما نشاهده من محاولات بعض الشبان التمسك ـ بشكل محتشم ـ بالراب، وظهور مراهقين جدد يحلمون بالشهرة مثل (أم. بي. أس) أو (دوبل كانون) فموسيقى الراب كظاهرة وصلت إلى نهايتها في الجزائر، وما بقي منها ليس أكثر من حنين إلى سنوات فائتة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الجزائر اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here