الجزائر – افريقيا برس. لم تتمكن بعد مدينة خراطة, شهيدة أحداث 8 مايو 1945, من تضميد جراحها بالرغم من مرور 75 سنة ولا حتى من التخلص من الكدمات التي لا تزال حية في ذاكرتها, فالضرر كان جسيما والجروح عميقة لدرجة أنها تدوي في الأذهان إلى يومنا هذا كضربات سوط تسترجع في ككل مرة آلاما لا تطاق.
“كان الأمر فضيعا لدرجة لا يمكن تصورها” يقول المجاهد سعيد عليق البالغ من العمر 87 سنة اليوم والذي كان شاهد عيان على وفاة أبوه وأمه وأخواه وأخته التي لم تكن قد تجاوزت الأربعة أشهر والذين قتلوا جميعهم رميا بالرصاص.
استطاع هو النجاة من الموت بعد الاختباء وراء صخرة غير بعيدة عن المنزل العائلي ولكن الصدمة لا تزال تقتفي آثاره إلى حد الساعة. لم يتعد آنذاك 12 سنة, ولم يكن وحده من عانى ويلات الانتقام صبيحة اليوم المشؤوم غداة المجازر التي ارتكبت في سطيف على بعد 60 كلم جنوب شرق المنطقة.
لقد دفع الثمن آلاف الأشخاص وذاقوا مرارة الخطة الجهنمية التي “لم يسلم منها حتى البهائم, من الماعز والكلاب والحمير”, هكذا يتذكر المجاهد وهو متأثر غير قادر عن فهم ماهية أعمال العنف تلك والوحشية”, قائلا “كانت تلك هي البغضاء بأم عينها وجريمة جماعية همجية”.
ويستذكر من جهته المجاهد الراحل لحسن بخوش, في تصريح له أدلى به لوأج قبل رحيله, خلال الأحداث التي جرت “يوم السوق الأسبوعي الذي غشاه جو جميل”, مشيرا إلى “تجمع المتظاهرين الذين أتوا من كل القرى المجاورة في ساحة البلدية حيث كان يحمل بعضهم الراية الوطنية, ولما استعمل أحد موظفي مكتب البريد وهو في حالة فزع سلاحه فأردى الشهيد “شيباني الخير” أرضا.
وهكذا ألقى الجيش عشرات الأشخاص في أعماق سد “شعبة الآخرة” الواقع في مخرج المدينة, ومع غروب الشمس، اختلطت المياه النقية بألوان الدماء المسفوكة، وتلطخت معها الجدران الصخرية للضفة اليمنى لتشكل واحدة من أبشع الصور الدموية.
ويقول المجاهد لحسن بكوش، وهو في ربيعه العشرين حينئذ, أنه كان سيخضع للمقصلة التي ما فتئ الجنود يلعبون لعبة مروعة بها, إذ كانوا يتسلون بقذف الأجساد حية في ذلك الفراغ.
كان هذا “دا لحسن” الذي زج به في السجن, قبل أن تصدر محكمة قسنطينة في حقه حكم الإعدام, ذاك الحكم الذي لم ينفذ أبدا, ليفلت مرة أخرى من الموت.
وإذ ينعت نفسه مبتسما بـ “المعجزة”, فقد صار قلب المجاهد مثقلا, خاصة وأن الأعمال البربرية والقمعية بقت على حالها إلى غاية الـ 22 من شهر مايو, بل وأخذت في الامتداد من تلك القرى القابعة في جبال البابور إلى الساحل.
وخلال تلك الفترة, قصف الجيش الفرنسي السكان المحليين وطاردهم دون هوادة وبكل ما أوتي من قوة وعتاد .إلّا العملية التي قادها الجنرال دوفال تبقى راسخة, تلك التي دامت يوما كاملا تحت أشعة الشمس الحارقة، فخطفت أرواح العشرات, من بينهم نساء حوامل أنهكهن السفر مشيا على الأقدام, ناهيك عن نفاد المياه والطعام في أجواء ميزها الحر الشديد وحالة الهلع من الموت في أي لحظة.
“هي جريمة في حق البشرية”, يقول ساعد عليق والذكريات لا تزال تحاكيه رغم الوقت الذي مضى, وهو يسعى دوما لإبقائها حية “حتى لا تنسى”.
وفي خضم هذه الذكريات, تم وضع نصب تذكاري في قلب شعبة الآخرة, وهو عبارة عن صرح معماري على شكل لهب ضخم يتربع على خرسانة مغطاة بالغرانيت وزاخرة بالمؤثرات ذوات اللون الذهبي, تم تزيين سطحها بلوحات وتماثيل عدة لشهداء حسب وضعية استشهادهم.